فلسفة الجهاد
25 أبريل، 2015
الرئيسية, عقائد
1,133 زيارة
قال أمير المؤمنين وسيد المجاهدين (عليه السلام): (أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماءة…)[1].
يؤكد الإسلام العزيز على الجهاد كثيرا، ويضمن للمجاهدين من المنزلة والدرجات مالايضمنه لغيرهم، {… فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}[2]، ولسنا هنا بصدد بيان ماجعل الله لهم من مزايا وأجر، وإلا لطال المقام بنا كثيرا.
ولكن لقائل أن يقول: لماذا الجهاد… أليس الجهاد إلا القتل، الجرح، اراقة الدماء، فقدان للأمول والأنفس، ترويع الناس، سلب حريتهم، اجبارهم على أمر قد لايريدونه؟!.
ولعل من يريد أن يفهم الجواب بشكل واضح عليه أن يبدأ مع قصة هذا الإنسان، حيث خلقه الله في أحسن تقويم، وفضله على كثير من الخلق،{ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}[3]، وأعطاه السمع والبصر والعقل، { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}[4]، وجعله خليفته في الأرض، ثم ارسل اليه الرسل بالوحي مبشرين ومنذرين، { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما}[5].
فكان أساس دعوتهم جميعا هو ما أودعه الله في فطرة هذا المخلوق العجيب، وكان أهم واجباتهم هو تاكيد ميثاق هذه الفطرة، قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين (عليه السلام): ( فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول)[6]، وعن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : أصلحك الله ، قول الله عز وجل في كتابه : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ؟ قال : (فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنه ربهم)، قلت : وخاطبوه ؟ قال : فطأطأ رأسه ، ثم قال : (لولا ذلك لم يعلموا من ربهم ولا من رازقهم)[7].
فكان التوحيد هو الركن الأول والأساس لدعوة الأنبياء (عليهم السلام)، وكان ركنها الثاني هو العدل، فقلما نجد قضية إهتمت بها دعوة الأنبياء ورسخت اركانها بين الناس كقضية العدل، فهي والتوحيد تتشعب أوعيتها لتدخل في جميع الأصول والفروع التي جائت بها رسالات السماء، بدأ بخالق الكون وانتهاء بسلوك هذا الإنسان، يقول تعالى عن ذاته المقدسة:{ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد }[8]، ويقول نبيه الكريم ( صلى الله عليه وآله ) : ( بالعدل قامت السماوات والأرض)[9]
وقال تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل …}[10]
فإذا كان التوحيد هو الفطرة التي فطر الناس عليها، كان التوحيد هو أهم حق من حقوق الإنسانية بمعناها الواسع الذي يشمل جميع أفرادها على مختلف البقاع والأزمان، وسلب هذا الحق من أحد ومنعه منه يعد من أشد الظلم، { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}[11]، وهذا الظلم قد يتخذ صيغة فردية بأن يظلم الإنسان نفسه بالشرك وسلب حق التوحيد الفطري عنها، وقد يكون جماعيا بأن يُسلب من طائفة من الناس، أو يعتدى عليهم لأجل أنهم مارسوا حقهم في التوحيد والرجوع الى خالقهم، أو يُمنعون من أن يصلهم مايذكرهم ويرجعهم الى هذا الحق الإنساني الفطري العظيم.
من هنا كان لابد من الجهاد، لأجل الدفاع عن هذا الحق المستلب، وأرجاعه الى أهله وهو نوع الإنسان، ولعل الآيات الأولى التي أذنت بالجهاد للمسلمين كانت تشير الى هذا المعنى، قال تعالى: { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}[12]
فالإسلام حينما شرع الجهاد، كان قد انطلق من فطرة الإنسان، كماهو الحال فيه بالنسبة لجميع ماجاء به ودعى اليه من مفاهيم وتعاليم عقائدية أو أخلاقية أو عملية، فهو دين الواقع المنسجم مع فطرة الخلق التي خلق الله الناس عليها، فهو لايدعو الى العنف والإرهاب والشدة، وليس همُّ الشريعة فتح البلدان وارغام الناس على عقيدة أو حكم معين، أو قهر الشعوب وسلب ثرواتهم، فإن الأنبياء إنما جاؤوا لهداية هذا الإنسان وإيصاله الى كماله اللائق به، ولم يأتو بعنوان أنهم فاتحون للبلدان أو غير ذلك، قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وآله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}[13] .
نعم جعل الجهاد كوسيلة للدفاع عن الدين وقيمه ومعتنقيه، ورفع كل مايقف مانعا أمام دعوته الى الحق والعدل، من الظالمين والمعتدين، فحيث أن هذه المبادئ تعوق مصالحهم وأطماعهم كانوا يقفون حائلاً بين مايدعو اليه دين الحق وبين الناس، ويمنعون من وصوله إليهم بكل الطرق، وهذا اعتداء على الإنسانية بأسرها، فإذا كان الجهاد لاجل هذه الغاية الإنسانية العالية، فهو ممايقبله العقل والشرع ويأمر به، وهو ممايستحسنه العقلاء وعليه جرت سيرتهم، ونحن نرى كم من الحروب قامت بها الدول التي لها قدرة وقوة في مختلف بقاع العالم، بحجة الحفاظ على أمنها ومصالحها، والقيم التي تؤمن بها.
فإذا تبين لنا هذا، تبين لنا بوضوح لم جعل الله للمجاهدين والمستشهدين في سبيله من المقام والدرجة الرفيعة، ونفهم عظم المواقف التي وقفها من أوكل الله اليهم مهمة حفظ الدين الحق بكل مفاهيمه ومبادئه، أمام كل من حاول النيل منه أو التغيير والتلاعب فيه، لأجل مصالحه الخاصة في السيطرة على الحكم والتحكم برقاب الناس، وهذه المواقف تتجلى في أنبياء الله تعالى وأوصيائهم، فقد ضحوا بالغالي والنفيس لأجل الحفاظ على الدين ورده الى واقعه وتنبيه الناس الى مايجري من انحراف، ولنا في الدم الذي سال في كربلاء مثالا عظيما يقتدى به، عندما خرج سبط رسول الله وخليفته حقا ( صلوات الله عليهما وآلهما) بنفسه وولده ونساءه وأهل بيته وأصحابه(سلام الله عليهم أجمعين)، بعد أن رأى حق الإنسانية جميعا يستلب.
وهكذا سار فقهاء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم من خلفهم، حيث لم يبخلوا بالمال ولا بالاولاد، بل وحتى بالانفس من أجل أن يبقى الإسلام عزيزا ثابتا يصل صوته عبر الأجيال جيلا بعد جيل، فرحم الله الماضين منهم، وحفظ ونصر الباقين، إنه ارحم الراحمين.
بقلم الشيخ الدكتور فلاح العابدي
[1] – نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام التي جمعها السيد الشريف الرضي، ج1 ص68.
[2] – سورة النساء، الآية 95.
[3] – سورة الإسراء الآية 70.
[4] – سورة النحل: الآية 78.
[5] – سورة النساء: الآية 165.
[6] – نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام التي جمعها السيد الشريف الرضي، ج1 ص23.
[7] – التوحيد، الشيخ الصدوق، ص330.
[8] – سورة آل عمران: الآية 182.
[9] – عوالي اللئالي، ابن ابي جمهور الإحسائي، ج4 ص103.
[10] – سورة النساء: الآية 58.
[11] – سورة لقمان: الآية 13.
[12] – سورة الحج: الآيات( 39-40).
[13] – سورة الأنبياء: الآية 107.