عندما سطر القلم منذ بضع سنين “أخطر الأمراض” أقالوا المقالة, وأرجعوها إلى درج الصمت وقرطاس الخوف أو روماً لعدم الوقوع في الإحراج…
أما اليوم.. بعد إنارة مشاعل الأمل من الأحمر القاني الذي روى أرضنا العربية, عمّ ضياء الحرية والصرخة المدويّة سماء دولنا, فكثر الطلب لكسر القيد بصدى صوت الصمت واستمرار الموقف…
نعم.. فعلى جالسي العروش والكراسي وأصحاب الجلالة والفخامة والألقاب الواهية, الخوف من الصمت عندما يسود؛ لم يعني الرماد يوماً انطفاء الجمر الحارق تحته.. فكلما ساد جبروت الحاكم خلّف في طيّات المواطنين نقمة لا يمكن إخمادها بإصلاحات الدنيا وأموالها..
إلى هنا نحن سواسية تحت خط المواطنة والإنسانية, ليأتي ما يذهل العقل الرشيد.. حيث استبدلت المناهج العربية بأخرى دموية.. بات اليمن والبحرين, سوريا ولبنان, العراق ومصر, تونس وليبيا.. وكل شبرٍ فيه مواطن حرّ… مفروضٌ عليه إتقان لغة الذبح لاجتياز الامتحان في المفهوم الغربي..
كانت البداية من تونس الخضراء الحبيبة, حيث وقفة العزة والشهامة, لشعبٍ قُهر ما يزيد عن عقدين من الزمن, من شين العابدين لا زينهم الذي أطفح خزائن البنوك ليلجأ لخزائن القصور ويخفي ما ندر وثَمُن قيمةً من مجوهرات وأموال لشعب فضّل الموت على العيش مع مدمن سلطةٍ, ليرحل إلى منفى العذاب والغربة… لكن إذا أردنا حصر الانطلاقة بالشاب التونسي الذي أضرم النار في نفسه, أجحفنا بحق الشعوب التي خضعت للذل والحقد والفقر وخيبة الأمل على مرّ الأجيال…
فأم الدنيا وحاضنة الأهرامات بفراعنتها, إلا فرعونٍ لا حسن فيه ولا هو بمبارك, جثا على صدر المصريين قرابة الثلاثين عاماً دون أن يرأف بحضارة مدّت جذورها عميقاً, ولا بشعبٍ عشعش الفقر في والجهل بصعيده وأريافه, لم يعبأ بدماء شهداء حرب أكتوبر ولا غيرها, بل طالما ادّعى كونه محارباً منهم؛ كيف ذلك وأنت من مددت يد المصافحة, وأظهرت ابتسامتك وتعاونك لعدوٍ صهيوني تدعي محاربته, لتكن ساحة التحرير بشاب الفيس بوك وتويتر أقوى من حصونك و طموحك بالتوريث لمن ليسوا بأهلٍ لمنصب راعي لأم الدنيا..
أبدعوا أبناءك يا مصر باتحادهم و شجاعتهم وعطائهم و سلمية تحركاتهم وشعاراتهم التي صُدّرت بدون أي تغيير “الشعب يريد إسقاط النظام”.. وسقط النظام برضا الدول الغربية, ليعتبر من وجد برأسه لبٍ, لا أحد فوق المصالح الغربية كان من كان…
أما سوريا الازدهار والمستقبل القادم, غطتها سحابة التخلّف السوداء, فاللغة عينها والتي طرحت في المناهج الدراسية هناك هي بعيدة عن الفصاحة والبلاغة, بل أبجديتها تخطّ بحدِ السكاكين والسيوف.. أما الحجر والمدر فيعزف لحن الألم والدمار الشامل.. لتنتظر الفرج بعد هذا العناء والصمود الطويل..
ليصل الدور إلى بلدين هما من أغنى الدول, وبالجشع السلطوي هما من دول ماوراء التطوّر والتحضّر وحتى المدنيّة…
طاغية أو مهرّج.. يأبى القلم ذكر اسمه.. زرعته الغدة السرطانية بيننا, يهودي الأصل, صحراوي المنشأ, لقب شعبه بالجرذان, وأمر بملاحقتهم “زنكة زنكة.. دار دار..” لأبادتهم. حكم ما يناهز نصف قرن, عمّ بها البلاء على الشعب المقهور المحروم, وإذا ما خرج بحفل خاص أو دولي أضحك الحضور بهندامه و ملابسه, وجعل النوم يسيطر على السامع بخطابه و ضياعه..
يوكل خيرات البلاد لسلسة من أولاده ليعبثوا فساداً بأرض مترامية الأطراف.. وخميسه لم يترك سلاحاً إلا وبه جزّر ونسف.. أليس الابن كأبيه؟! ألم يخطف ملك ملوك أفريقيا يوسف لبنان الحبيب؟ ألم يغيب أمل المحرومين؟ ألم يغدر بالسيد موسى الصدر ورفيقيه؟ فكيف سيكون الابن إذا كان إجرام الأب وجبروته هو مصاديق للسير فوق جماجم الشعب وإسكات الحق وصوته؟!
لنحط بدولة أمرنا بملاحظة التغييرات فيها, دولة حكمها عبد المال والسلطة لا عبد لله, حكمها طالح لا صالح, حكمها كسلفه -مهدم ليبيا- قرابة الأربعة عقود, ارتفعت بها نسب الجهل والفقر, وحرّك بها النزعة القبلية لتنشب الحروب بينهم ويحافظ هو على منصبه و سيطرته على خيرات البلاد.. لكن عرشه هوى, وإرادة الشعب لابد وأن تنتصر.. رغم الصوت الذي يعلو من هنا أو هناك!!
فنشهد أنه رغم هذا الاضطهاد والقمع والحرمان, ثار شباب اليمن الأشم وثوار ليبيا الشجعان, فناضلوا ونالوا الحرية من براثن الحكام الظالمين.. لكن قوى الاستبداد والاستعمار, لن يتركوا هذه الشعوب بسلام..
وتنقلب الموازين في بقعة أخرى من عالمنا الإسلامي, هنا الفساد والعبث والخيانة وقاموس الاضطهاد يطبق لا على حاكم جائر بل على شعب أراد الحياة…
فحاملوا ولاية أميري علي عليه السلام هنا…
وثائرون لدم السبط الحسين عليه السلام هنا…
ومنتظروا راية المخلّص العالمي القائم المهدي عجل الله فرجه الشريف هنا…
هنا يرخص الدم لنيل السعادة.. و أرواح جعفرية ترنو لنيل الشهادة…
إنها حقيقة ألفناها لأجل الحفاظ على ثقلين أوصى بهما نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم…
في البحرين شيعة رفعوا أعلام بلدهم و ساروا لميدان الإباء, طلباً بإصلاحات معيشية وتحويل الملكية المطلقة إلى أخرى دستورية, لم يقولوا حتى بإزالة من حثّ العدو الصهيوني على سفك دم الشيعة في لبنان..
طائرات لدرع الجزيرة وقوات استقدمت إلى البحرين كما اليمن.. من صاحب الجلالة لدولة رايتها تحتوي على أجمل وأرحم ما قيل “لا إله إلا الله, محمد رسول الله” لتسحق وتدمر وتقتل… والأغرب أن لا حياة لمن تنادي, لم يندد أحدٌ بما جرى من سفك دماء و أرواح, بل قلبت الطاولة لتجعل الدم رصاصاً, والقتيل مخرّباً و خائناً, والحق باطلاً ونفاقاً وانقلاباً وتدخلاً في سيادة الدول..
أما العراق الحبيب, صاحب الجرح البليغ, لم يعرف يوماً دروب الياسمين والرياحين.. داعش والبعث.. والعبث والقتل والذبح, هي سلسة طالت من صور ملحمة قتيل العبرات.. لكن بين هذا الكم الهائل من الآلام نجد أسوداً تسطر أبجدية علوية في سوح الوغى, تحت لواء مبارك لمرجعية حكيمة استطاعت تحقيق معادلة الخطوط الحمراء المرسومة على حدود أطهر البقاع.. ندائها بالمضمون العام:
يا أحرار العالم الهدف معروف وواضح سحق شيعة الأمير أينما كانوا وأينما حلو..
وفي ختام القول: سحابة التغيير لن تنحصر هنا, هذه الأردن وأرض الحجاز والدول الخليجية والسودان والجزائر والمغرب… تسير وراء أسلافها عسى أن شمس الحرية والاستقلال تشرق بعد طول غياب, لنتباهى بها أمام إنسانيتنا وإمام عصرنا ورب الكون الذي استخلفنا في أرضه..
(وَ نُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ)
سورة القصص, الآية5