فلسفة الثورة الحسينية والانتظار
3 مايو، 2015
الرئيسية, عقائد
933 زيارة
لعل إحدى قيم الثورة الحسينية أنها تشكل أحد أهم مراحل التوطئة للمستقبل الإسلامي ليسجل انتصاره التاريخي وإن كان هذا الانتصار سيحدث في مراحل زمنية لاحقة يفصلها أكثر من ألف عام وبضعة مئات من السنين, وهذه إحدى السنن التاريخية والإلهية بتأخر نتائج الأحداث المهمة لمراحل لاحقة, فنتائج الحياة ستتكرس في الآخرة, والرسالات السماوية لا تحقق انتصارات على المستوى القريب إلا لحالات الضرورة التاريخية والرسالية.
والسبب في ذلك أن الزمن يسير نحو غاية حتى يصبح زمناً تاريخيا, وبالتالي فإن تحقيق الانتصار لا يفترض به أن يكون قريباً, وقد يكون قريباً لكنه يحمل في ذاته عمقا تاريخيا بالاتجاه المستقبلي مما يمنحه قدرة على الاستمرار والظهور بأشكال أخرى في مراحل زمنية لاحقة, وهذه الرؤية تفسّر كيف يصبح الإنسان مؤثراً في تشكيل المستقبل ورسم ملامحه, فالثورة الحسينية التي سعت إلى إنضاج الوعي الجمعي بالقضية الإلهية, سعت أيضاً إلى تشكيل أدلة بأن وعي الأمة يجب أن يكون مرتبطاً بالمثل الأعلى (الله سبحانه) وإلا سيكون وعياً سلبياً ينحدر بالأمة إلى الحضيض.
وقد يبدو للوهلة الأولى ثمة تنافر بين مفهومي الثورة والانتظار على المستوى اللغوي والفعل, فالثورة تعني الحركة والاندفاع والتفاعل الشديد بين موجودات مما سيسمح بظهور نتائج آنية سريعة وأخرى تحتل مساحات زمنية تتباعد أو تتقارب حسب قوة الاندفاع الخارجي لمادة الحدث, فالثورة في مفهوم البعض بركاناً يلقي بمادته للخارج باندفاعات مترابطة وقد تبدو عشوائية. والانتظار بالمقابل مفهوم عام يوحي بالارتخاء والكسل, وقد يكون مبعثاً للملل, ويظن البعض أن نتائج الانتظار غير مجدية لأنها غير معلومة للأفكار, وغير مدركة بالأبصار, هذا التصور الخارجي لمفهومي الثورة والانتظار يمثل الكثير من القصور الإدراكي لهذين المفهومين لأنه يطرح فكراً سلبياً محدداً يغلب عليه الاتجاه المادي, فعندما يتم تفسير الثورة وفق الأطر المادية ستكون هذه الثورة محدودة الإمكانات والنتائج, بل أنها ستفقد أية قيمة مستقبلة لأنها ستتركز في مساحة الزمن الآني, وهي بالتالي ستصبح كرصاصة انطلقت في الفراغ دون هدف وبالتالي يمكن أن تقتل بريئاً, في حين أن الثورة ذات الأصول الرسالية تتوخى تحقيق غايات عادلة باعتبارها تقيم علاقة مع المستقبل والآتي, فالآني بالنسبة لها كالجذر الأولي للنبتة وهي تتطلع نحو الثمار بشكل دائم لتحقق الاستمرارية في الوجود.
إن الانتظار كمفهوم يحقق الغايات الرسالية عبر رؤية مستقبلية تعني عدم الاستسلام للواقع الآني والخضوع له, فالانتظار في الفكر الإسلامي هو الاستعداد الدائم لمواجهة الحدث, باعتبار أن الإنسان جزء أصيل ومؤسس لحركة التاريخ, فالإسلام ينفي عن الانتظار الفكرة المثالية المجردة, كما أنه ليس هروبا من ظلم الواقع الحالي, فهو ليس حلماً أو فكرةً استقرت في ذهن المظلومين عبر تراكمات حركة التاريخ, بل حقيقة تستند إلى مرجعية إلهية, فمرجعية الانتظار هو وجود زمن آتي تتحقق فيه الغايات, و قد تمرّ أجيال عديدة دون أن تشهد هذا الزمن, لكن لا يعني انتفاء وجوده أو عدم حدوثه في المستقبل.
فالإمام الحسين”ع” أراد أن يعود بالأمة إلى العصر الرسالي الذي بدأه جده الرسول الخاتم’, وهذه الفكرة لا تمثل ارتداداً تاريخياً, وهي لا تنطلق من رؤية ماضوية, لكنها ترتكز على موقف رسالي وهو الاستمرار بالرسالة الإسلامية في إدارة الأمة بالشكل الإلهي وليس بالشكل المنحرف, ومن هنا كان تركيز الإمام في مكة على تهيئة الوعي الجمعي لما سيحدث في كربلاء, كما إنه شغل وقتاً في إعادة تفسير الشريعة الإسلامية وتبيان الأحكام وترسيم العلاقات بين الأمة, فالانحراف كان كبيراً, والخرق كان واسعاً, والجرح في جسد الأمة كان عميقا, وإعادة ترتيب الأوضاع كانت تحتاج إلى جهد هو أقرب إلى المعجزة الإلهية كي تستطيع الأمة الاستمرار بما لديها ولا ترتد على أعقابها خاسرة.
فالإمام الحسين”ع” يدرك قيمة الحفاظ على ما تبقّى من أصول رسالية في صدور أبناء الأمة, وهو يريد إنماء هذه النبتة من جديد وإذكاء هذه الجذوة قبل انطفائها, ومن هنا كان الجهاد وكانت الشهادة لتجسد الشريعة حتى أعماق الجراح. هل ستكتفي الثورة الحسينية بهذا الدم الطاهر المراق على رمل كربلاء في العاشر من محرم؟ هل سيكون مقتل الحسين”ع” وأهل بيته وخيار الصحابة نهاية مطاف الثورة؟
لا شك أن الاعتقاد بهذه الفكرة سيكون إجحافاً بحق الثوار ودمائهم الطاهرة, وبحق الصبية والنساء السبايا, كلا فالثورة لا تشكل قيمها فقط بالدماء ولكن بالوعي التاريخي الذي تصنعه, وبموقعها في الزمن الآتي, ولهذا كان الانتظار انتظاراً للثأر كما هو انتظار لتحقيق الغايات الإلهية, انتظار للدولة الإلهية التي لم تتحقق حتى في ظل الإسلام الرسالي الأول, فقيمة الفكر الإسلامي بشكله النهائي تتحقق في المستقبل, باعتبار أن الفكر الإسلامي فكر مستقبلي وهو الفكر الخاتم, فلا مستقبل خارج الإسلام.
بقلم صباح الفحل_ الحجاز