تعدو و تروح بأرض البطحاء .. فتملأ خطاها أرجاء تلك المدينة …
تتفكّر في خلق السماوات والأرض .. فلم يرضها السجود للأحجار الصمّاء ..
تسأل هذا و ذاك .. علّها تجد ما يرضي منطقها .. ويلبّي فطرتها الطاهرة ..
تسمع أن هناك منجٍ يظهر ليأد الجاهلية .. ويذهب بها إلى الاضمحلال و الفناء ..
قد بشّرت به الأديان السابقة ..
تبحث عن طلائع ذلك النور وصفاته … تريد أن تجعل بصمةً في مسيره ..
و إذا بسحابة الخير تظللّ أسماعها .. حاملة مفردات زلالية ..
الصدق .. الأمانة .. الطهارة .. نصرة المظلوم ..
كلمات مضيئة ملئت أسماع تلك الفتاة الثرية .. السيدة الحجازية ..
التي ورثت المال من أبيها لكنها عرفت كيف تتصرّف به .. فلم تبذله في العيش والطيش كما يفعل أقرانها .. و كأنها تدّخر أموالها لأمر أعظم من ذلك بكثير ..
نعم .. تبلغ الثمان والعشرين من عمرها[1] ..
يتقدّم إليها الثريّ و الغنيّ .. صاحب الجاه ورئيس القبيلة .. طمعاً بالمال والنسب ..
لكنّها ترفض .. تقف .. تخالف ..
إنها تبحث عن جوهرةٍ .. عن درةٍ تفوقها طهارةً و نقاءاً .. حباً و إخلاصاً ..
ومن أفضل من محمد ابن عبد الله …
لم تقف مكتوفة الأيدي لنيل مناها .. تسأل .. تستفسر ..
تأتيها عنه أخبار مدهشة .. كما يأتيها هو بأرباح طائلة ..
لم تتمالك نفسها .. ولم تتماهل في الأمر ..
ترسل إليه .. تطلب الزواج منه ..
لم تبال بقلة ماله .. أو بيتمه ..
لن تقف أمامها تقاليد قومها .. و لا هجر عشيرتها ..
تهئّ البيت .. تهب الأموال ..
لتنقش مفاهيماً ترسم بها لوحة الصفاء بشفافيتها ..
عشق و فداء .. محبة و تضحية ..
لأجل نيل الغاية …
و يقترن الطاهران .. ويذهب الأثران ..
في إطارٍ ثمين .. عشٍ حنين .. و بيتٍ رصين ..
يكون مهبطاً للوحي .. و مسرىً للعروج إلى السماوات ..
يكون منطلقاً للإسلام .. و مأوىً للمسلمين ..
و هنا أموال خديجة .. مصرفاً للدعوة .. مسنداً للنبوة ..
ونداء ملكوتي .. و وجدك عائلاً فأغنى ..
و يفيض وعاء خديجة .. بريحانة النبي .. بحلقة الوصل بين أحمد و الوصي ..
إنا أعطيناك الكوثر ..
لتبدأ سلالة المصطفى .. و تمتدّ في أرجاء الأرض … لتقول للعدو إنك الأبتر ..
نعم .. إنها خديجة .. تتعبّد في جوف الليل ..
تنفق ما تملك للعائل وابن السبيل ..
تعاني الجوع في الشِعَب .. لتواسي بني هاشم في النصب ..
و تتألق علّواً .. لتنال شرف كونها إحدى سيدات نساء العالمين …
و هنا يقترب النجم من الأفول .. و أفل ..
وترك نبي الرحمة .. ينعى رفيقة الدرب .. ويتجرّع عام الحزن ..
1- بناءاً على الرواية التي تقول بأن عمر السيدة خديجة (ع) عند زواجها من الرسول (ص) كان 28 سنة, وقد أيّد هذا القول جمع من العلماء وبعض القرائن .
زهراء السالم – العراق