دور الأسرة في التكوين الاجتماعي الإنساني والإسلامي
إن العائلة في النظرية الإسلامية تساهم في تكوين الفرد الصالح للمجتمع الصالح القادر على العمل والانتاج، كما تساهم في تكوين وبناء الفرد الجادّ في بناء النظام الاجتماعي الإسلامي من خلال منحه كلّ ما يهيّئ له الاستقرار النفسي والإشباع العاطفي ويفجّر لديه طاقاته الكامنة التي تصنع منه إنساناً حقيقياً يتسامى في طريق الكمال.
والإسلام يعتبر الأسرة أساساً للتكوين الاجتماعي الإنساني بشكل عام. وهي الركن الأهم في بناء المجتمع الإسلامي، ومن هنا فقد وضع تشريعات دقيقة لتكوينها وتنظيم السلطة فيها ولانحلالها إن اقتضت الظروف ذلك.
إن الوضع الأُسري في الشريعة الإسلامية ليس مجرّد تعبير عن التزام قانوني بين الرجل والمرأة، وليس مجرّد ارتباط عاطفي وأدبي بينهما، وإنّما هو ذلك كلّه وفيه زيادة على ذلك شيء من معنى العبادة، لأنّه التزام روحي بين الرجل والمرأة وذريّتهما، ولأنّه يتكوّن لتحقيق غاية من غايات خلق اللّه للإنسان واستخلافه في هذه الأرض.
وقد وضع الشارع المقدّس تشريعات لتأسيس الأسرة وما يتعلّق بها ويطرأ عليها من شؤون الوفاق والخلاف والعجز الاقتصادي والمرض والموت وغير ذلك. فكانت للأسرة أنواع من التشريعات:
منها: ما هو ذو طابع تنظيمي يحدّد مواقع أعضائها، ويوزّع السلطة داخل الأسرة ويحدّد الحقوق والالتزامات.
ومنها: ما هو ذو طابع اقتصادي يحدّد مسؤولية الانفاق.
ومنها: ما هو ذو طابع تربوي.
والإخلال بالتزام هذه التشريعات يستلزم آثاراً حقوقية على المخلّ بها.
وهذا يقتضي وجود سلطة مرجعية مخوّلة بالتدخّل إذا طلب منها ذلك لإعادة النظام وإقرار العدالة في الأسرة التي تتعرّض للاختلال أو يتعرّض بعض أفرادها للظلم بانتهاك حقّ من حقوقه.
فمؤسسة الأسرة ليست شيئاً قائماً بذاته وليست شيئاً منفصلاً عن العبادة والنشاط الدنيوي وتشريعاتهما، وإنّما هي موصولة الوشائج تشريعاً بذلك كلّه.
مبادئ وأهداف تكوين الأسرة في الاسلام
ينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة ومن قاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعاً. فالّذي خلق الإنسان جعل من فطرته «الزوجية»، شأنه شأن سائر المخلوقات في هذا الوجود. قال تعالى: {سُبْحانَ الَّذي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ}[1] ثم شاء اللّه الخالق للإنسان أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة {الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً وَ نِساءً}[2] و{وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً}[3] وبهذا أراد أن يكون التقاء شطري النفس الواحدة سكناً للنفس وهدوءً وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثمّ ستراً وإحصاناً وصيانة، ثم مزرعة للنسل وامتداداً للحياة. فقال:
{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُن}[4] و{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم}[5] و{وَالَّذينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم}[6] و{وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا}[7]
فالأسرة ليست مجرّد جمع بين الذكر والأنثى، بل هي تجسيد للانجذاب الفطري بين الجنسين تحقيقاً للأهداف الكبرى التي تنطوي وراء هذا الانجذاب. وإنّ البيت أو الأسرة أو العائلة في رؤية القرآن الكريم سكن، تلتقي في ظلّه النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمّل والحصانة والطهر، وفي كنفه تنبت الطفولة وتدرج الحداثة ومنه تمتد وشائج الرحمة وأوامر التكافل.
وبهذا تمدّ الأسرة كل المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد أو الترقي حين يكون نظام الأسرة دقيقاً شاملاً لهذه المؤسسة الإنسانية تؤهّل أبناءها بالتربية إلى وظائفهم الاجتماعية للنهوض بنصيبهم في ترقية المجتمع الإنساني، ولذلك يلزم أن يحوطها هذا النظام من كلّ عوامل التدمير من قريب أو بعيد، ويحرص على توفير الضمانات اللازمة للاستقرار والهدوء منذ بداية تكوينها على أساس الطهر والقداسة المتصلّة باللّه حيث يراد اتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية.
فالإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها بل ينظّمها ويطهّرها ممّا يمكن أن يعلق بها من شوائب قد تتردى وتهوي بها إلى منزلق سحيق. وهكذا نفهم السرّ في الارتفاع بهذه الدوافع الفطرية عن المستوى الحيواني وترقيتها إلى مستوى اعتبارها محوراً تدور عليه رحى الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية حين تقام العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية التي تجعل من التقاء جسدين التقاء نفسين وقلبين وروحين, أي التقاء إنسانين بكل ما لكلمة إنسان من معنى وعمق تربط بينهما حياة مشتركة وآمال وآلام مشتركة ومستقبل مشترك يلتقي في الذريّة المرتقبة التي تنشأ في عشّ مشترك يحرسه الوالدان ولا يفترقان.
فالزواج في الإسلام أساس التكوين العائلي، وخير وسيلة للتطهّر والارتفاع بالنفس إلى المستوى الإيماني المطلوب. «من تزوّج فقد أحرز نصف دينه، فليتقِ اللّه في النصف الآخر»[8] وسمّي الزواج إحصاناً أي ستراً ووقاية وصيانة يتقرّب بها المؤمنان إلى ربهما وخالقهما الّذي خلقهما للأهداف الكبرى التي تتعدّى هذه الحياة المحدودة المادّية وتتعالى على نزوة الجنس، ولُقمة العيش الرخيص {وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ}[9] {جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ…لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون}[10]
وبهذا تصبح العائلة في النظام الاجتماعي الإسلامي محطة استقرار لعالم متحرك تنتقل من خلالها ممتلكات الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة، ومحطة شحن للطاقات الإنسانية وقاعدة لتنشيط الانتاج الاجتماعي واستثمار الثروات الإنسانية باتجاه الأهداف الإنسانية السامية.
ولمّا كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض أضخم دور امتدت طفولته فترة أطول ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل وكانت حاجته لملازمة أبويه أشدّ من حاجة أي طفل لحيوان آخر، وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوّض عنها ولا يقوم مقامها. ومن ثمّ نجد النظام الاجتماعي الإسلامي الذي أراد اللّه به أن يدخل المسلمون في السلم كافة وأن يستمتعوا في ظلّه بالإسلام الشامل يقوم على أساس الأسرة ويبذل لها من العناية ما يتّفق مع دورها الخطير. ويحرص الإسلام على أن لا تتحطم الأسرة التي تكونت برعايته لينفصم فيها رباط الزوجية الا إذا أصبحت الحياة في ظلّها عبثاً أو جحيماً لا يطاق. ومن هنا كان أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق. وبذلك تنحل الأسرة ولكن ضمن مراحل عسى أن تتغيّر النفوس ويصلح اللّه بينهما بزوال النفور. كما يبقى طريق العودة مفتوحاً في أغلب الحالات لتقل الخسائر، ولا يدع البيت المنهدم أنقاضاً بل يقدّم الحلول لكلّ التبعات ويمسح بيد الرفق ويتفارق الزوجان وفي قلوبهما بذور الود والنداوة التي قد تحيى هذه البذور فيما بعد.
الأدوار التي تقوم بها الأسرة قد لخصها الدكتور الأعرجي في نقاط عشر:
1 . العائلة ظاهرة تكوينية عالمية يختبرها كلّ مجتمع إنساني.
2. تنبثق السيطرة الاجتماعية على السلوك الإنساني في أغلب الأحيان من العائلة التي تُعلِّم أبناءَها مفاهيم الحقوق والواجبات المتبادلة والمتفق عليها اجتماعياً.
3. المؤسسة العائلية نقطة استقرار لعالم متحرّك تنتقل من خلالها ممتلكات الجيل السابق إلى الجيل اللاحق.
4. هي مؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الأفراد.
5. هي محطّة فحص وتثبيت أنساب الأفراد.
6. هي مركز لحماية الأفراد بالحب والحنان والدفء والمطعم والملجأ.
7. هي مكان مهمّ لتهذيب السلوك الجنسي وتعلّم المعارف الضرورية قبل الخروج إلى الساحة الاجتماعية.
8. إنها محل لاستلهام الثقافة.
9. هي محل ممارسة النشاطات الدينية.
10. وبالتالي هي متنفّس لحركة الروح وتربية النفس الإنسانية على الالتزام بالمثل والقيم الأخلاقية ومنطلقاً لوعي الذات.[11]
الأستاذ منذر الحكيم _ العراق
[1] . سورة يس: الآية 36.
[2] . سورة النساء: الآية 1.
[3] . سورة الروم: الآية 21.
[4] . سورة البقرة: الآية 187.
[5] . سورة البقرة: الآية 223.
[6] . سورة الطور: الآية 21.
[7] . سورة الحجرات: الآية 13.
[8] . الكافي, الكليني, ج5, ص329.
[9] . سورة الإسراء: الآية 70.
[10] . سورة يونس: الاية 14.
[11] . انظر النظام العائلي الإسلامي للدكتور زهير الاعرجي.