(الحلقة الأولى)
خرجت من دورة مياه أحد المطاعم الضخمة فتاة لم تتعدَ الثامنة عشر ربيعاً، كانت مبهورة بمن حولها، في حركاتهم وسكناتهم, تحياتهم وسلامهم, المكان كله كان يبدو وكأنه قطعة من أوربا… وفي إحدى زوايا المطعم جلس شاب ينتظرها ما لبث أن طلب بوضة ليشغل بها نفسه، لاحظت أن أحداً ما يجلس معه، أومأ لها بعينيه بأن لا تأت وما أن سلمه النادل البوضة حتى وضع الشاب مفاتيحاً في يده الأُخرى بكل هدوء من دون أن يلفت انتباه جليسه فما كان من النادل إلا أن تسلمها منه وسلمها لها؛ شعرت بالامتعاض قليلاً إلا أنه ما لبث أن تلاشى حينما نظرت إلى صورتها المنعكسة على المرآة وهي تلبس الفستان الذي طالما وقفت تتأمله وتمسك بمفاتيح تلك السيارة الأنيقة الواقفة في مرآب المطعم، أخفت نظراتها القلقة تحت النظارات الشمسية وتوجهت سريعاً إلى السيارة… فمنذ فترة فاتحها ابن عمها بشأن زواجهما _ وكانا لبعضهما منذ الطفولة_ يساورها القلق إذ لم تعد تفكر بالزواج من ابن عمها منذ أن ظهر طارق الشاب الغني في حياتها، ولم تعد تزور بيت عمها وإذا ما زارهم ابن عمها تقابله ببرود شديد؛ بدء هو يراقبها حين لاحظ عليها هذا التغير المفاجئ وطلب منها أن تقطع علاقتها بطارق لكنها رفضت، هددها بكشف أمرها, وعندما شعر أنها مصرة قال لها بقول الناصح: (إن هؤلاء الأغنياء أدهى من أن يرتبط أحدهم بفتاة فقيرة مثلك فزواجهم جزء من صفقات أعمالهم), وخوفاً من أن يكشف أمرها وعدتهُ بأنها ستترك طارقاً ولكنها لا تفكر بالزواج إلا بعد التخرج من الجامعة، وقد شاهدته أكثر من مرة يراقبها ليعرف مدى برها بوعدها، سرعان ما سخرت من تخوفها (أنى لمثل هذا الحثالة أن يأتي إلى هنا.. ولنفرض أنه مرّ هل سيعرفني؟!!) هزت رأسها بالنفي (ألا أبدو واحدة من بنات العز والدلال) وزفرت زفرة عميقة (حتى أني لم أصدق أنني صاحبة هذه الصورة المنعكسة…آه متى أصبح حرم السيد طارق ابن السيد طلعت رشيد أكبر تجار البلد؟!) .. واستدركت قائلة: (وماذا ينقصني؟!.. غير هذا الفقر الذي ورثه أبي عن جدي كما ترث العوائل الأرستوقراطية القصور الضخمة).
جلست في السيارة تنتظره.. ما لبثت أن شعرت بالملل.. بحثت عن شريط لمطربها المفضل فلم تجد لكنها وجدت نقود، برقت عيناها, لكنها لم تسمح لنفسها ولو بلمسها, تمتمت نفسها قائلة: (يجب أن لا أبدو أمامه كصعلوكة دنيئة)، ضغطت على رز صغير فنزلت زجاجة نافذة السيارة, كان جلوسها في سيارة طارق قد ملأ عليها سأم انتظار طارق نفسه, مدت عنقها قليلاً وقالت: (يا صاحب الكشك.. جريدة اليوم من فضلك!!).
– أي جريدة يا آنسة؟!
قالت بتلعثم (هذه التي على يمينك) إذ لم يكن قصدها شراء جريدة معينة، وإنما أرادت أن ترى كيف يتعامل الناس معها وهي تتقمص الغنى، فهي تحاول إقناع نفسها بأن ما تقوم به (قفزة شطارة).
أخذت الصحيفة وبدأت تقلبها, وفجأة تسمرت عيناها على موضوع طويل تراقصت عيناها على الأسطر, فتح طارق الباب جلس وهو يصفر بادرها قائلا (واو.. الثوب فري نايس عليك)!!
طوت الصحيفة وكأنها تريد إخفاء محتواها وقالت بلهجة غاضبة: لقد تأخرت يا طارق..
– آنا آسف.. لقد التقيت بأحد أطراف المعارضة.
– ماذا؟
– أحد أقارب روجان.
اكفهر وجهها وقالت: (ولم تخشها وأنت تزعم أني حبك الوحيد؟!)
– طريقة تفكيرك ساذجة تدلل بوضوح على أن صاحبتها في مرحلة الثانوية.. ما بك يا رحاب هل تشكين بمدى حبي لكِ؟!
– إلى أين يا حضرة المهندس؟
– أين تودين تناول طعام الغداء اليوم؟
– أريد أن أجلس في مكان هادئ وحسب.
– سآخذك إلى مطعم افتتح للتو..
– أنت تسرع في القيادة احذر… اسمع اليوم لا أستطيع أن أتأخر أكثر من ساعة لأن الدرس الخصوصي الذي تشترك فيه جارتنا ليس له محاضرة اليوم.
– قلت إنك مسيطرة على الوضع، ثم ماذا لو تأخر الدرس الخصوصي أكثر؟
– (لا تخف يا سعيد الحظ، ماذا تريد أكثر من هذا أم ساذجة وأب…) قالت ذلك وازداد نبرة صوتها حدة حين قالت (قلت لك لا أستطيع).
– هدئي من روعك لا تبدين كعادتك ماذا دهاك، هل تعرض لك معين بمكروه؟!
– لا!
(إذن ماذا دهاك) قال ذلك وهو يقدم لها رزمة نقود وتابع قائلا: (خذي.. اشتري بها شيئا لصديقاتك مشروب بارد..خذي).
همست: (شكرا) همس بنفس النبرة: (لا شكر على واجب).
– هل أدور لك أغنية؟
– لا أريد… أعصابي متعبة من الامتحان.
– حسنا ًبراحتك.
أكملا الطريق وهما صامتان، في المطعم أيضاً بقيت صامتة.. شعر طارق بأن هناك شيئا ما.. بادرته قائلة: (هيا بنا يا طارق)
– ما بك يا رحاب لا تبدين على ما يرام؟
– طارق أشعر بأن…لا أدري ماذا أقول لك.. أريد العودة إلى البيت أشعر أني بحاجة إلى الراحة!!
– مازال الوقت مبكرا ًعلى العودة..كان بودي أن أصحبك إلى السينما… غيري ملابسك لكي لا…
– أعلم… لست على هذه الدرجة من الغباء..
– لم اقصد يا عزيزتي ولكني أريد أن يتم كل شيء بهدوء.
– (طارق لماذا لم تختره أبيضا على الأقل… أليس هذا من حقي كفتاة؟!) قالت رحاب ذلك وقد ارتسمت على محياها مسحة حزن مشوب بالخوف.
– عزيزتي رحاب… هذا الثوب الذي أعجبك.
– لكني أريد ثوبا أبيضا أبدء به حياتي معك إن حرمتني ضروفنا من بدلة الزفاف، أتراه قليلاً علي؟!
– لا تحزني أرجوك… سأشتري لك ثوباً أبيضا لا تحزني نحن لا نسرق إننا لسنا بحاجة لوصاية أحد كي نخاف ….هل تسمحين لي بتدخين سيجارة؟!
– توقف هنا لأغير ملابسي حسب الأوامر..
– حسنا ًيا أميرة قلبي.. تفضلي وإن صعب فراقك علي يا فراشتي.
أوقف سيارته.. أما هي فظلت ساكنة، فقال لها بتودد: (هل أنت على ما يرام يا رحاب؟)
– أنا خائفة يا طارق…
– مم يا رحاب؟..مني؟!!
(من غدر الأيام …الأيام غادرة يا طارق).. رفعت رأسها ثم قالت بجدية: (إني مستعدة لانتظارك العمر كله فلا داعي للعجالة) وضع كوعيه على المقود وقال: (إذن سأسافر إلى خارج البلد إن كان حبي الوحيد لا يثق بي).
فردت بلهفة: (أنا…أنا لا أشك بحبك لي يا طارق… لكني أخشى من أن تتنصل عن إعلان زواجنا في الوقت المناسب أخشى أن تكون الظروف أو إرادة أبويك أقوى منك).. أطلق ضحكة ساخرة وقال: (من منهما يدخل الرعب في قلبك؟! أمي التي تسكن النادي للثرثرة صباح مساء؟ أم أبي القصير الأبله الذي استولت سكرتيرة لا تتعدى العشرين على قلبه وجعلته كالخاتم في إصبعها؟ قولي من منهما لكي أسحره إلى قزم صغير وأقدمه لك هدية في علبة من ذهب… لا تفكري بهذه الطريقة الساذجة يا كتكوتة، ولا تغيري رأيي فيك لقد قلت لي مسبقا بأنك تحبين التمرد على التقاليد البالية والأعراف المتخلفة… إننا يجب أن نعيش عصر العولمة ثم إننا لا نحتاج إلى وصاية أحد كي نخاف، هلا نسيت كلامك حول الوقوف بوجه الجمود الفكري؟! هيا يبدو انك متعبة, اذهبي للبيت واخلدي للراحة.. هيا.. يا رحاب..)
رفعت رأسها وحملقت في عينيه فبادرها قائلا: (بشرفي يا رحاب لأجعلن روجان تهرب من تعاملي معها ببرود ولأقيمن لك حفل زفاف تحسدك عليه كل صديقاتك هيا يا صغيرتي… إن كنت تحبيني كما أنا أحبك فلم تخشين من أن تبرهني لي على ذلك؟!)
– حسناً… وداعاً.
– لا تقولي وداعا بل قولي إلى اللقاء.
نزلت من السيارة أنزل زجاجة النافذة وقال: (كوني شجاعة..مع السلامة).. ابتسمت بمرارة وقالت: (إلى اللقاء).
_ إلى اللقاء.
ودعها وسار بسيارته وهو يستمع لأغنية أجنبية…
انتظرونا..
أم كوثر الموسوي_ أفغانستان