المتبادر عندنا أن المقصود من الصوم هو الكفّ عن المفطرات, وإن ترقّينا أكثر فنعرّفه أنه حفظ اللسان وغضّ البصر وكفّ السمع, ولعمري إن هذا التعريف وإن كان هو البلسم الشافي للأمراض التي أنهكت مجتمعنا الإسلامي حتى كادت أن تقطّع أوصاله وتذهب بالثمار التي أوشك على اقتطافها بفضل صبره على السنين العجاف من جهاده المرير, وخصوصاً الثلة المهاجرة الصابرة التي راحت تحاكي في مصائبها مصائب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في صدر الإسلام, ولكن ما أردت أن أشنّف به أسماع من يستمع القول فيتبع أحسنه أن أستذكر في هذه العجالة صيام القلب وصيام اللسان..
وبالتفاتة بسيطة إلى الفيوضات الربانية لكلام الهادي البشير رسولنا الحبيب محمد| بقوله: >من صام صامت جوارحه<يتضح جلياً هذا اللون من الصيام باعتبار أن القلب ليس جارحة من جوارح الإنسان فحسب وإنما هو سيّدها لقول إمامنا الصادق”ع”: >إن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس<[1]ولقوله “ع” أيضاً: >القصد إلى الله بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال<[2]ولقول أمير العارفين علي”ع”: >صوم القلب خير من صيام اللسان وصيام اللسان خير من صيام البطن<[3].
من هنا يفرض سؤال نفسه: ما هو المقصود من صوم القلب؟ ولعل خير مجيب لهذا التساؤل هو باب مدينة علم النبي”ص” أي أميرنا علي”ع” بقوله: >صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام<[4].. والذي يشير إليه الفيض الكاشاني&نقلا عن أبي حامد>وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنيّة والأفكار الدنيوية وكفّه عمّا سوى الله بالكليّة, ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر في ما سوى الله واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تُراد للدين فإن ذلك زاد الآخرة<[5]
فإذا كان هذا اللون العظيم من الصوم ممّا لا يُرقى إليه إلا ذو حظٍ عظيم, فعلى سجيّة ما قاله أمير الواعظين علي”ع”: >ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفة وسداد<فإنه يتضح أن هذا اللون من الصيام إنما هو لعقد الهمم وتأكيد العزم على الرقي إليه فيكون عندئذٍ صوم بقية الجوارح _غير القلب_ مما قد فرغ منه, خاصةً ميزانها الذي توزن به كلّها بما فيها القلب والذي هو اللسان لقول أمير المؤمنين”ع”: >اللسان ميزان الإنسان< وإن كان معنى الصوم هو الكفّ, فصوم اللسان هو كفّه وهو أولى من غيره خاصة إذا علمنا أن كفّه واجب في أيام الفطر فكيف في الصوم؟! وذلك لقول الأمير”ع”:>ما من شيء أحقّ بطول السجن من اللسان<[6]ولعل السرّ في ذلك لأن المرء مخبوء تحت لسانه, وأن جمال الإنسان في فصاحة لسانه, وأنه مفتاح الخير والشر, وبه يستقيم إيمان العبد ولذا كان حقه>إكرامه عن الخنا وتعويده الخير وتركالفضول التي لا فائدة فيها والبرّ بالناس وحسن القول فيهم<[7].
وينبغي أن لا يخدعنا الشيطان بتسويلاته تحت غطاء (كلكم راعٍ) و (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين…) فتلك مطيّة شموس تحتاج إلى راكبٍ ماهر أحكم عنان نفسه وأجاد كبحها لأنها>بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة …<[8]ولأنها>كثيرة العلل طويلة الأمل<, ولذلك فقد أجاد فقهاؤنا الأعلام حين وضعوا أحكاماً في غاية الدقة عن نقد المؤمن لأخيه, ومن أراد النجاة فليسأل أصل العلم, أهل البيت”ع”فهم أدرى بما في البيت.. فالله الله من هتك حرمة أخوتنا المؤمنين إذ أن هتك حرمتهم أعظم عند الله من هتك حرمة بيته الحرام..
فلنعقد العزم في شهر التوبة على نصب عقولنا وجعلها حارساً شديداً على زلّات ألستنا فإن>أكثر خطايا ابن آدم في لسانه<[9]ولأن زلة اللسان أنكى من إصابة السنان…
زهراء السالم العراق
[1]. مستدرك سفينة البحار, الشاهرودي, ج8, ص561.
[2]. بحار النوار, العلامة المجلسي, ج 75, ص 364.
[3]. ميزان الحكمة , الريشهري, ج2, ص1687.
[4]. موسوعة أحاديث أهل البيت, النجفي, ج 8, ص 519.
[5]. المحجة البيضاء, الفيض الكاشاني, ج2, ص131.
[6]. الأمالي, الشيخ الطوسي, ص 535.
[7]. وسائل الشيعة, الحر العاملي, ج15, ص 172.
[8].ميزان الحكمة, الريشهري, ج4, ص 3325.
[9]. المصدر السابق, ج4, 2781.