طُرق الباب.. أحسستُ بكره الطارق والقادم, دخلتُ غرفة الحنان, أطلب من السيد الفرار.. زودني بجرعةٍ من التحدي والإقدام, فقال: هيا افتحي الدار, ولا تجعليهم ينتظرون..
اقتحموا المكان, سعياً منهم لأخذ باقر العلوم.. استمهلهم بعض الوقت, علّه يجهز نفسه لعرسه القادم!! اغتسل غسل اللقاء!! وارتدى ثوب الزفاف!! وودّع الأهل والصغار.. الرفاق وأنا.. وبعدها قال لهم: هيا بنا فقافلة الرحيل تنتظرني!!
في الطريق انتقلت حواسه لعرش الشهادة الذي أحب, فالعين ترمق وتدمع حيدراً الولي, والشفاه تسبح ملائكة الحرم والرحمن, واليد تلمس سبحة مريم والزهراء, ورائحة المسك والعنبر تفوح من أعتاب المدينة المقدسة, وصوت القرآن والأذان وإقامة الصلاة سهامٌ ناطقةُ تخرق قلوب أعداء الله..
أحب السيد طول الطريق, ورمال الصحراء وحرّها, لكنه كان يدرك أن القافلة ستحط في وادي الذئاب.. وبغدرٍ بعيدٍ عن الرجال وعقولهم.. ستطلق صفارة الرحيل..
وكأني به يوصي الأرض برمالها وحجارتها, بهوائها وفراتها, بأمواتها وأحيائها..
يوصي السماء بشمسها ونجومها, بطيورها وغيومها, بملائكتها وشهدائها..
وكأني بصاحب العمة السوداء.. يوصيهم بنهج جدته الزهراء أم أبيها..
وكأني بصاحب الهيبة العلوية.. يوصيهم بحفظ الأمانة بين الرمش وأخيه..
وكأني بصاحب الحضور الحسيني.. يحفر عميقاً داخل الوجدان: >ألا إنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين, بين السلة والذلة, وهيهات منّا الذلة..<
حطّت القافلة في وادٍ, اجتمعت فيه آلهة الحقد والكره والجهل.. وبشموخ أرزةٍ خضراء.. ووقار العمة السوداء.. وصبر الحوراء.. وقف السيد هناك.. كوقفة الأصحاب يوم الطف.. لا ناصر سوى الجبار القهار.. ولا معين سوى إرث أمير الكلام..
لا.. صرخها عالياً, وإني لأسمعها حقاً بين ضلوعي.. فالصبر من الحوراء, وأنا أخت صاحب العمة السوداء, وجذوري جذور الأرز الشامخ.. لكن المفارقة اليوم, فأعداء الله سفكوا دمائي لإخضاع أخي ورايته.. لكنهم أخفقوا, فرغم الجميع توّجتُ بأكاليل الغار, فلقبٌ هو الوسام يوم الحساب: “الشهيدة أخت السيد الشهيد”
فانظر من عليائك.. لشموع النور تلك, واصغ لنبض القلب الذي غرست.. فاليوم سُحِقتْ عظام الطاغية.. وبقيت أنتَ بين أكفّ الطلاب في كل رواقٍ ومدرسة.. بقيتَ همساً بين طيات أطهر الدماء, وأبلغ المداد في سماء الصحوة والظهور..
مدى حسين زيعور – لبنان