في الغرفة الشمالية من منزل العم أبي محمد >علي مقلّد<, الكائن في قريتي عربصاليم جنوب لبنان, كانت المدفئة (الصوبا) تستعر.. وفي الزاوية سرير كان محمد الإبن عليه، يتعافى من رصاصة صهيونية أصابت رقبته, كادت لتقتله لولا أعجوبة إلهية حلّت..
الحقيقة لا أذكر الكثير عن تلك الليلة الباردة من العام 1988, لكنّ مُحمّد المجاهد الصغير كان يخبرنا عن تلك العملية النوعية التي سقط فيها أحد أقاربنا الشهيد أحمد فرحات, برفقة ثلة من المجاهدين.. أكاد لا أنسى أبداً صوت الرعد الذي يعلو ليحجب رنين عبارات أم محمد, كلمات حفرت عميقاً لتخلد في الذاكرة لأعوام: >أنا أعرف أن مُحمّد وإن نجا هذه المرة, فإن الأمر لن يطول وسيزف شهيداً.. نعم الأمر صعب, ولكن هذا خياره وهذه عقيدتنا<..
قالت تلك الكلمات ولم تتغير أي من تعابير وجهها البشوش, أذهلتني رباطة جأشها ورضاها.. مع صغرِ سني الذي لا يسمح لي بإدراك حقيقة ما قالته تلك الليلة, لكنني كنت أعرف تماماً معنى فقدان العزيز, فلم يكن قد مضى وقت يسمح لي تناسي رحيل خالي الغالي في حادث سير مروع…. ولم أكن أتصور امتلاك الإنسان لهذه الجرأة أمام الموت, فكيف بأم..؟!، لا أدري لو كنت اليوم مكانها, لربما نزفت من الدموع ونذرت من الدعاء كي لا يخرج ولدي من البيت.. ولكن أمّ محمد وأخواته كنَّ يجهّزنه لعرس الشهادة القادم..
في الوقع كان الأمر أكثر مما يبدو, فلم يكن المعسكر محاصراً فقط, ولم تكن حشود الأعداء على الأبواب وحسب.. بل كان المجتمع آنذاك بمعظمه مشككاً بجدوى خيار المقاومة وثمرة تلك الدماء.. كنا لَنفرح أن يُعزّى بشهيد, أو أن تمتلئ نصف الحسينية في مأتم شهيد, فلم تكن الحالة الاجتماعية بالحماسة الحاضرة في يومنا هذا..
هو الخيار الواعي الذي اتخذه هذا البيت, أن يحتضن الموت ولا يهابه.. إذ لا فرق بين ما يعلنه كاعتقاد وبين ما يقوم به من نشاط.. الدين الحنيف هو خيار الحياة، يبذل فيه أغلى ما عنده بعيداً عن أبجدية لعق على الألسن..
صحيح أني لا أعرف الكثير لأخطه عن هذه العائلة؛ لتقصيري وغربتي.. أجل لا أعرف من زرع هذا الموقف من الحياة فيهم.. ولكنهم أثبتوا بجدارة فائقة رجالاً ونساء, نغمة احتضان الموت بشجاعة لافتة.. بيتٌ تتنشق فيه رائحة الشهداء الكبار الكبار:
– محمد علي مقلّد.
– مصطفى حيدر.
– عزيرة مقلّد.
– محمد أحمد مقلّد.
– عاهد سعادة.
حتى الأمس, كانوا خمسة أقمار تتلألأ في سماء تلك الحارة الفوقا الحارسة لبلدتي عربصاليم.. خمسة من هذا البيت مضوا برضا يثير التساؤل, ويجعلني أقتنع تماماً بأنني لم أدرك بعد حقيقة الحياة بمنظور صيرورة البقاء..
لعل المفهوم الرائج في هذه الدنيا أن الناس مجموعة أفراد، كل يسعى ليزيد ربحه وجاهه وسلطانه, لكن أي ربح هذا في أن تعشق الموت؟!.. وأين يكْمن محرِّك تلك الأرواح؟!
بالأمس القريب هوى ذلك الفارس المقدام عن جواده..
بالأمس غادر عماد البيت وسلطانه..
بالأمس رحل المحامي والبقية من عبق الرجولة الخالدة..
بالأمس أقفلت تلك الحارة أبوابها خلف آخر فوارسها..
بالأمس اعتلى محمد بدراً منيراً, فأضحت للثريا ستة أقمار..
رحلت يا أبا عيسى شهيداً قائداً، ولمثلك تحلو الشهادة.. لكن المنطق الذي انتهجته يصعب إدراكه ببرهة قصيرة.. يروي لي أحد المقربين: أن للجلسة مع أبي عيسى الإقليم لذة نادرة؛ لكونك بين يدي روحٍ ذات جاذبية لا تقاوم.. يتحدث عن تجاربه هناك على حافة الموت في عربصاليم، جرجوع، مليخ، اللويزة، جبل الرفيع، وغيرها الكثير من قرى إقليم التفاح, التي قدمّت وسام الاسم لهذا البطل الهمام.. فتتمنى عندها لو أنك تستبدل سنين عمرك بلحظات من تلك.. أحداث تهزك في الصميم..
هي السياحة في الدائرة الأوسع من الحياة, في المنطقة التي لا يجرؤ اجتيازها إلا من احتقر الخوف والموت.. أبو عيسى الإقليم معدن مختلف, رجل من عالمٍ آخر.. كسر قيد ما يَهزِمُ: الخوف, العجب, الحسد, الأنانية, حب الدنيا والذات.. والنتيجة روح تشع شموخاً وكرامة.. وسحرٌ سخره لينتزع البسمة من قعر القلوب الحزينة حوله.. هذا المعدن وهذه الروح صُنعُ ذاك الخيار وانكشافٌ لحقيقة الحياة..
فالفرق بين الذي يخاف الموت ومنْ لا يخافه.. هو الفرق الوحيد بين العبد والسيد, العبد يشتري السلامة للدنيا بالطاعة والاستسلام, والسيد يُكلَّلُ سيداً بعد تغلبه على خوفه من الموت – هكذا يقول هيغل أحد فلاسفة التاريخ -, فقط عندما تهزم الخوف من الموت تستطيع أن تعيش الحياة بكليتها, لتصبح سيداً على دنياك.. فالموت كالظّل, ما إن تهجم عليه يهرب منك, في حين أن هروبك منه يلحق بك ويُضيِّق عليك.. قالها من قبلُ أمير المؤمنين علي×: >ومن ساعاها فاتته, ومن قعد عنها واتته, ومن أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته<[1]
تُرى اليوم.. بعد أكثر من ثلاثين عاماً من درب ذات الشوكة, كيف تنظر هذه العائلة المعطاء إلى خيارها؟!
هل كانت حياتهم أفضل لو أنهم انكفؤوا عن تلك التضحيات ولبس الأحزان, واختاروا جمع الأموال وتبديل الثياب والسيارات؟!, هنا أتحدث عن حسابات الدنيا فقط, لأننا لو أدخلنا حسابات الآخرة فإن هذا السؤال سيغدو سخيفا للغاية..
يقول بعض العرفاء أن كلّ منا قد اختار طبيعة حياته في عالم الذر قبل أن نولد: منهم من أرادها سهلاً مريحاً, ومنهم من أرادها جبلاً وعراً لا يتسلقه إلا بالمشاق والآلام.. ولكننا جميعاً سنصل إلى نهاية الطريق, لننظر إلى تلك المسافة التي اجتزناها طيلة العمر المديد بنظرة واحدة, منا منْ سيرى حياة تافهة لا طعم لها ولا رائحة, ومنا من يباهي بها الخلق..
آل الشهيد القائد العزيز محمد عيسى >أبو عيسى الإقليم<.. إنّ أحزانكم هي أروع من أفراح العابثين, فلا تقاس الحياة بأيامها.. فهل يستوي يوم النسر مع يوم البغاث؟!
إلى جنان الخلد أيها القائد الفذّ..
سنفتقدك يا أبا عيسى.. كما ستفتقدك بلدتك عربصاليم وكل قرى الجنوب ومدن الأحرار..
طب هنيئاً في عليائك.. فخلفكَ تلاميذٌ مخلصون لدرب الجهاد والشهادة..
مدى زيعور – لبنان
[1] – نهج البلاغة, خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام, ج1, ص131.