اللطف وهو ما يقرب العبد من الطاعة ويبعدّه عن المعصية، له مصاديق متعددة، فقد يكون اللطف دستوراً وكتاباً صامتاً، وقد يكون اللطف نصب إنسانٍ ناطقٍ، فكل ما يفعله المربُّي ليبعد من يكون تحت رعايته عن القبيح, ويقرّبهم من الخير والفعل الحسن برفق فهو لطف، فاللطف أمر تفرضه الحكمة والرحمة، إذ الحكيم _وهو الذي يكون فعله متقناً ومنظماً_ لابد أن يكون له هدف وراء ما يفعل، فالحكمة تفرض عليه أن ينصب الأدلة التي ترشد وتوصل إلى ذلك الهدف، والحكيم الذي خلق الإنسان بهذا الإتقان، لابد له من هدف من ذلك الخلق، وكما يجب اللطف من باب الحكمة كذلك يجب من باب الرحمة، فالأب الرحيم لا يترك شيئاً يصلح حال عياله الا وهيّأه لهم وأرشدهم إليه، والله تعالى أوجب على نفسه الرحمة، فمن رحمته أن ينصب لهم الأدلة التي ترشدهم إلى الخير وتقربهم من الطاعات وتبعدهم عن الشر والمعصية، لذلك كان نصب الأنبياء والأوصياء”ع” مما أوجبته الرحمة الإلهية.
والإمام من الأدلة التي تحقق تلك الأهداف، لأنه يدعو إلى الخير وينهى عن فعل الشر والقبيح، ولو لم يكن قاهراً، فالإمام كالنبي”ع” لا يقهر الناس ويسلبهم الاختيار، بل يربي بأقواله وأفعاله سواء كان فعل الإمام بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لذلك لا يشترط في كون الإمام لطفاً حضوره بين الناس دائماً، فالإمام لطف سواء كان قاهراً أو مقهوراً، وسواء كان الإمام غائباً أو حاضراً.
ولذا تُعد مسألة اللطف في الأمام من المسائل الحساسة في المجتمع الإسلامي، فالمجتمع يحتاج إلى من يدبّر أموره وينظمها، ويمنعه من الانحراف، ويقوده نحو الفضيلة والكمال، وهذا ما يتحقق بالإمام، فهل هذا اللطف يتحقق بالأمام الغالب القاهر؟ أو يتحقق بالإمام الظاهر؟ أو بالإمام مطلقاً ولو كان غائباً؟ فالأمام الغائب الذي لا يرى شخصه الناس، أو أن رأوه لا يعرفوه، هل يحصل بوجوده مع غيبته لطف أم لا؟ فمع عدم حصول اللطف تنتفي فائدة الإمام الغائب، ومع ثبوت اللطف بالإمام الغائب يدور البحث عن كيفية حصول هذا اللطف، وأن الأرض لا تخلو من حجة، ووجود الإمام أمر لابد منه.
وللتحقق من هذا الأمر لابد من إثبات:
- أن الإمامة كالنبوة من الأصول، حتى نثبت أن نصب الإمام لطف يجب على الله، كما يجب على الله تعيين النبي من باب لطفه ورحمته.
- لا يخلو زمان من وجود حجة، فلابد من وجود إمام في كل زمان.
- إن اللطف يتحقق بالإمام مطلقاً، سواء كان الإمام قاهراً ظاهراً، أو غائباً خائفاً غير قاهر.
وقد ذكرت مسألة اللطف في الكثير من الكتب الكلامية لكبار المتكلمين أمثال الشيخ المفيد حيث يقول:
أن غيبة الإمام”ره” عن أوليائه إنما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منهم على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته, فقيل له فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم. فقال الشيخ المفيد”ره”: ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت من قبل أنه لا ينكر أن يعلم الله سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلاً من الظهور لفسق هؤلاء الأولياء فسقاً يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه لهذه العلة وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام. ووجه آخر وهو أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الإمام”ع” أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون بالحق عند مشاهدته ويسلمون له الأمر وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم وازدادوا طغياناً بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره لعموم الصلاح.[1]
کما قال أبو الصلاح الحلبي في إمكان ظهوره”عج” لأوليائه في زمن الغيبة:
وليس لأحد أن يقول فهب تكليف أعدائه مع غيبته”عج” لازم لتقصيرهم عن الواجب من تمكينه فما بال أوليائه العارفين به المتدينين بطاعته يمنعون لطفهم بظهوره لهم بجناية غيرهم ويلزمهم تكليف ما ظهور الإمام لطف فيه مع غيبته بجريرة سواهم ومقتضى الألطاف عندكم بخلاف هذا.
لأننا لا نقطع على غيبة الإمام”عج” عن جميعهم بل يجوز ظهوره لكثير منهم ومن لم يظهر له منهم فهو عالم بوجوده ومتدين بفرض طاعته وخائف من سطوته لتجويزه ظهوره له…[2]
ومن هنا يقول الشيخ الطوسي:
واللطف به حاصل وبمكانه أيضاً يثق بوصول جميع الشرع إليه، لأنه لو لم يصل إليه ذلك لما ساغ له الاستتار إلا بسقوط التكليف عنهم, فإذا وجدنا التكليف باقياً والغيبة مستمرة” علمنا أن جميع الشرع واصل إليه…[3]
هذه وغيرها من أقوال العلماء التي عندما نتأمل فيها نجدهم يقطعون بوجود الملازمة بين اللطف ووجود الإمام، وهذه الملازمة يفرضها العقل ولو لم يكن هناك شرع، إذ العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، وفعل القبائح والوقوع في المفاسد من الظلم، فلو كان هناك ما يردعهم عن فعل القبيح، لأوجب العقل وجوده دائماً، والإمام هو الذي يردع المعتقدين به عن ذلك، لذلك يحكم العقل بأنه لابد من وجود الإمام لكونه لطفاً، وهذا الأمر أجمعت عليه الشيعة الإمامية.[4]
والثمرة التي تتبيّن لنا من خلال هذا الاستعراض هي:
1 . أن وجود الإمام لطف يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية.
2 . أنه لا يخلو زمان من حجة، فزمان الغيبة لابد أن يكون فيه حجة.
3 ـ أن وجود الإمام المهدي”عج” أمر مفروض، ولكونه الإمام المعصوم الذي لا يوجد له بدل، فوجوده لطف، والغيبة لا تمنع من اللطف، كون اللطف لا يتقيد بالحضور بل بوجود الإمام.
بقلم الأستاذ أبوحيدر_ الجزائر
[1] ـ الفصول المختارة, الشيخ المفيد, ص6 11 ـ 117.
[2] ـ تقريب المعارف, الحلبي, ص 444.
[3] ـ الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد, الطوسي, ص: 368.
[4] . أنظر : العقائد الجعفرية, الطوسي، ص 250.