برؤيةٍ قرآنية
لقد اهتم القرآن الكريم كثيراً بأمر حفظ النوع الإنساني وضمان استمرار الحياة من خلال التناسل فشرع الزواج وتکوين الأسرة لأجل التكاثر وإيجاد النفوس ليعمر العالم وتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف، حيث يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[1]
وقد ورد في السنة الشريفة تأكيدٌ كبيرٌ على وجوب حفظ تداوم حياة النوع الإنساني من خلال التناسل, فقد ورد عَنِ رسول الله”ص”: “تناکحوا تناسلوا تکثروا (تکاثروا) فإني مباه بکم الأمم يوم القيامة”[2].
وَعَنْه”ص” أَنَّهُ قَالَ: “وَلَمَوْلُودٌ فِي أُمَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ”[3].
ولا يخفى ما للزواج من آثار إيجابية مهمة أخرى على الوجود البشري والحياة الإنسانية على مستوى الفرد والمجتمع لما يضمنه من استقرار نفسي وعائلي واجتماعي؛ حتى عدّه نبي الإسلام”ص” أحب بناء بني في الإسلام, حيث ورد عنه”ص” أنه قال: “مَا بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِنَاءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعَزُّ مِنَ التَّزْوِيجِ”[4].
ولا يكتفي القرآن الكريم لأجل حفظ تداوم حياة النوع الإنساني في الحثّ على الزواج بل ويتابع هذا البناء حتى بعد إنجاب الأولاد, حيث أمر باحترام حقوق الوالدين وصلة الأرحام من أجل الحفاظ على كيان الأسرة, ومن ثم الحفاظ على تداوم النسل البشري، يقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ في عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصيرُ}[5].
إذ ورد في الحديث عن الإمام الرضا”ع”: “وَحَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْقِيرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّوْقِيرِ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَإِبْطَالِ الشُّكْرِ وَمَا يَدْعُو مِنْ ذَلِكَ إلى قِلَّةِ النَّسْلِ وَانْقِطَاعِهِ لِمَا فِي الْعُقُوقِ مِنْ قِلَّةِ تَوْقِيرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْعِرْفَانِ بِحَقِّهِمَا وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ وَالزُّهْدِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْوَلَدِ وَ َرْكِ التَّرْبِيَةِ لِعِلَّةِ تَرْكِ الْوَلَدِ بِرَّهُمَا”[6].
فاحترام الوالدين وصلة الأرحام بدورهما يعتبران ضمان آخر لدوام التناسل ودوام الحياة بسبب كونه تشجيع في الإنجاب والتربية, إذ يرى الوالدان ثمرة أتعابهما لم تذهب سدى.
وفي سياق الاهتمام القرآني بحق الحياة على مستوى البدء والوجود, وردت الكثير من المطالب الفرعية التي تتضمن تنظيم حقوق الأسرة وتفصّل في توضيح حقوق الأبناء، نتناولها كالتالي:
حقوق الأطفال داخل الأسرة
بما أنّ القرآن الكريم يشرّع الزواج لأجل التناسل وإنشاء جيل جديد من البشرية، فمن الطبيعي إذن أن ينعكس هذا الاهتمام على حياة الطفل أيضاً ولقد كان للقرآن مع الطفل في داخل أسرته الكثير من الآيات والمواقف التي تنظّم حقوقه وتصون حياته فقد حرّم القرآن الاعتداء على حق الطفل في الحياة منذ كونه جنيناً في بطن أمه، ولأي سبب كان, حيث يقول تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أولاًدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبيراً}[7].
وجاء في التفسير أن المراد بقتل الأولاد أمران: أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإجهاض[8]. وهنا جاء النهي عن قتل الأولاد سواء أكانوا قد تمّ إنجابهم إلى الحياة أو إنهم لا يزالون أجنة في الأرحام، ذلك أن عملية قتل الأولاد كانت تتم بطريقتين: فتكون بإسقاط الجنين تارة، وبصورة الوأد تارةً أخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).[9]
وقد قطع القرآن الكريم أسباب هذا الفعل الشنيع وعالج جذوره ومبرراته والتي غالباً ما تكون إما لخوف الفقر المعبر عنها قرآنياً بـ”خشية الإملاق”، أو لكون الحمل غير مرغوب به, أو ناتج عن علاقة غير شرعية. ولقد عالج القرآن الكريم هذه الأسباب وسدّ كل تلك الذرائع في قوله تعالى {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أولاًدَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[10].
أما السبب الأول المتمثل بذريعة الخوف من الفقر فقد حاربها من خلال التأكيد على أن الرزق بيد الله, حيث نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وفي قوله تعالى في آية أخرى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً}[11].
فمع نفي الربط بين كثرة النسل وبين الفقر, فإنه لا يبقى مسوغ للاعتداء على حق الطفل في الحياة “فلما تقرر في الآية أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وما دام الرزق بيد اللّه، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل إنما الأمر كله إلى اللّه. ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة”[12].
وأما السبب الثاني وهو كون الحمل غير مرغوب فيه بسبب عدم شرعيته تحديداً, فقد حاربه من خلال النهي عن اقتراب الفواحش والزنا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} وقد جاء في التفسير: “إن في الزنا قتلاً من نواحي شتى؛ إنه قتل ابتداء, لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها, يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق، قبل مولده أو بعد مولده, فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء.. وهو قتل في صورة أخرى, قتل للجماعة التي ينشأ فيها. فتضيع الأنساب وتختلط الدماء، وتذهب الثقة في العرض والولد، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات…”[13].
ذلك أن قتل الجنين في بطن أمه أو ما يسمى بعملية “الاجهاض” والذي كان _بحد ذاته_ ولا يزال من الأخطار الكبيرة التي تهدد حقوق الطفل وبالتالي حق الإنسان في الحياة على مستوى الوجود.
ولقد كان لهذا الموضوع في أروقة منظمات حقوق الإنسان والمؤتمرات التي انعقدت حول حقوق المرأة والأسرة مكانا بارزاً ومهماً، حيث أصبحت مسألة الإجهاض إحدى المسائل العصرية التي تفرض نفسها على واقع الحضارة المادية المعاصرة, “إنهم يشيعون بين الجماهير نوعاً من الثقافة الجاهلية تشجعهم على قتل أولادهم، فمن ناحية يضللونهم عن فطرتهم النقية في حب الأولاد، وضرورة الإبقاء عليهم ومن ناحية ثانية يهلكونهم بذلك، إذ أن الجيل الذي ينقطع نسله جيل أبتر، وبالتالي أصلح للاستثمار. {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ} وكمثل لهذا الواقع المشين ثقافة الجاهلية الحديثة التي تشجع على تحديد النسل، وعلى الإجهاض”[14].
والغريب في الأمر أن النظام الحقوقي الليبرالي يجوّز أمر قتل الأجنة ويعتبر عملية الاجهاض من حقوق المرأة باعتباره من ضمن حق الاختيار والحقوق الشخصية في حرية تصرفها بجسدها. وهذ تجاوز صريح لأبسط مقررات العقل والمنطق وبديهيات الطبيعة البشرية، فالطفل ليس جزء من جسد أمه وإن كان ضمن أحشائها بل إنه وجود مستقل وحياة جديدة أصبحت الأم مسؤولة عن الحفاظ عليها إلى أن تحين ولادته. والإسلام يعتبر الوالدين وبالأخص الأم سبباً ووسيلة لحفظ حياة المجتمع البشري عبر خلق الأجنّة في داخل جسدها ولا يعتبرها أبداً مالكة له أو مسلطة على حياته, وقد أولى للجنين أهمية بالغة وتابع مراحل تكونه في بطن أمه بدقة حيث يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ}[15].
ولقد جعل الفقه الإسلامي لكل مرحلة قيمة مالية كديةٍ تفرض على من يعرض حياته في أي منها إلى الخطر “فجعل للنطفة خمس المئة أي عشرين دينار وللعلقة خمسي المئة أي أربعين دينار، وللمضغة ثلاث أخماس المئة أي ستين دينار، وللعظم أربعة أخماس الدية أي ثمانين دينار، فإذا أُنشأ فيه خلق آخر وهو الروح, فهو حينئذ نفس فيه ألف دينار كاملة”[16].
حتى وإن كان المتسبب بإزهاق روح الجنين الأم نفسها, فإن عليها دية يجب أن تدفعها لزوجها, حيث جاء في كتب الفقه حول “امرأة شربت دواء عمداً وهي حامل لتطرح ولدها ولم يعلم بذلك زوجها فالقت ولدها… إن كان له عظم قد نبت عليه اللحم وشق له البصر فإن عليها ديته”[17].
بقلم نهى القطراني _ العراق
[1] . سورة الروم, الآية 21.
[2] . المبسوط, السرخسي, ج4, ص193.
[3] . مستدرك الوسائل, النوري, ج14, ص153.
[4] . المصدر السابق.
[5] . سورة لقمان, الآية 14.
[6] , من لا يحضره الفقيه, الصدروق, ج 3 , ص565
[7] . سورة الإسراء, الآية 31.
[8] . التحرير والتنوير, ابن عاشور, ج28, ص 149.
[9] . الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مكارم الشيرازي، ج18، ص264.
[10] . سورة الأنعام, الآية 151.
[11] . سورة الإسراء, الاية 31.
[12] . في ظلال القرآن, السيد قطب, ج4, ص2224.
[13] . المصدر السابق.
[14] . من هدي القرآن, المدرسي, ج3, ص204.
[15] . سورة المؤمنون’ الآية 12_14.
[16] . جامع المدارك, الخوانساري, ج6, ص278.
[17] . المصدر السابق.