قال رسول الله’: (من أراد دنيا وآخرة فليؤم هذا البيت, ما أتاه عبد فسأل الله دنيا إلا أعطاء فيها، أو سأله آخرة إلا ادخر له منها، أيها الناس عليكم بالحج والعمرة فتابعوا بينهما فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن، و ينفيان الفقر كما تنفي النار خبث الحديد)[1].
إنها أرض مكة المكرمة، التي راح إبراهيم الخليل”ع” يطوي فصولاً من الزمن إلى أن وصل إليها محطّ رحله فيها ومعه هاجر وإسماعيل وقد راح يرمق السماء بعينيه قائلاً {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[2] ويرجع إبراهيم”ع” ويتلفت إسماعيل طالباً الماء فلا يجده وإذا به يفحص رمال مكة بقدميه الصغيرتين وتبدأ هاجر بالهرولة بين جبلي الصفا والمروة لعلها تجد ما يروي ظمأ رضيعها وإذا بالأرض تتفجر ينبوعاً من الماء يروى ظمأ إسماعيل، إنها ماء زمزم…
ثم يعود إبراهيم”ع” ليبني مع ولده ويرفع القواعد من البيت المعظّم, فيتعالى صرح التوحيد ويكون أول بيت وضع للناس… رمزاً للإيمان… رمزاً للتوحيد… مكان العبادة والوفادة على الله.. ويخاطب المولى جلّ وعلا نبيه قائلاً {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالْقائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[3].
وقد شاء الله تعالى أن يكون لهذا البيت شأن عظيم يقصده الناس من كل حدب وصوب. لم يكن أحد يتصور أن هذا المكان الجدب، المحاط بالقفر والبيداء من كل مكان, يصبح مظهراً من مظاهر الحضارة والرغد من العيش، والخصوبة من الزراعة، يقصده الملبّون لنداء (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك… لا شريك لك لبيك), أطلق إبراهيم”ع” نداء الدعوة إلى لقاء الله ممتثلاً أوامر الله الذي خاطبه {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ}[4] ثم جاء نبي الإسلام, نبي الرحمة, محمد المصطفى’ بدين الإسلام وكان الحج أحد أركان دعوته والكعبة قبلته ووجّه نداء الدعوة إلى كل مسلمي العالم قي أقصى وأدنى بقاع الأرض معلناً {وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ}[5]…
وهكذا شاءت القدرة الإلهية أن تكون الكعبة حرم الله الآمن وأرض السلام والاطمئنان, تبثّ في روح الإنسان الأمان والسكينة والمحبة وتتوارى فيه نوازع الشر والعدوان والبغضاء والضغينة, هذه النوازع التي دعت الملائكة للاستغراب قائلةً {أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ}[6] فجاء الإسلام بفروعه وأركانه مربياً للإنسان وقد صقل روح الحاج بمفاهيم قدسية ومعانٍ عرفانية ارتقت به في مدارج الكمال ليصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى… نعم إنها الصلاة, إنها الحج, إنها الصوم, إنها الطهارة, إنها الولاية, إنها… كلها بمثابة الحبل والسلّم الذي يصعد ويرتقي بالإنسان لمقام خليفة الله في أرضه, لمقام أعلى من مقام الملائكة, و من دون هذا الحبل وهذا السلّم فإن الإنسان سوف يخلد إلى الأرض وينحدر وينحدر إلى أن يصل إلى مكانة هي أخسّ وأحطّ من مكانة البهائم, بل هم أضل سبيلاً.
الحج واحد من هذه المفاهيم والمعاني المقدسة, إنه رحلة الروح والبدن, إنه هجرة الإنسان إلى ربه ووفادته عليه, هجرة للأهل والولد والمال والملذات وتحمل المتاعب والمشاق…
رحلة تشارك فيها نفس الإنسان ومشاعره.. ظاهره وباطنه.. جوارحه وجوانحه, والهدف من وراء ذلك!!.. قربة إلى الله تعالى, إظهاراً للعبودية, الإقرار بعظمة الخالق وصغر المخلوق وأن بدايته من تراب وآخره إلى تراب, متمثلاً مقولة أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب روحي له الفداء التي وصف بها المتقين قائلاً: (ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين, شوقاً إلى جزيل الثواب وخوفاً من وبيل العقاب, عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)[7].
هدانا الله وجميع المؤمنين والمؤمنات لما فيه خير العاقبة.
بقلم عبير شرارة _ لبنان
1.دعائم الإسلام، ج1، ص 295.
[2] . سورة إبراهيم.: 37
[3] . سورة الحج: 26.
[4] سورة الحج : 27.
[5] . سورة آلعمران : 97
[6] . سورة البقرة: 30.
[7] . نهج البلاغة: ج2, ص161 شرح محمد عبده.