يُعد الإعلام الأداة الأهم في التأثير على العقول وتوجيه العواطف والأحاسيس، كما ويعتبر من الوسائل السلمية التي تمكن من إبلاغ الحق إلى العقول دون قتال، ذلك حقيقة الإعلام هو “عملية توجيه الأفراد بتزويدهم بالمعلومات والأخبار والحقائق لمساعدتهم على تكوّن رأي صائب في واقعة محدودة أو مشكلة معينة” .
وعملية الإعلام إنما تمثل في جوهرها… “بث الحقائق والمعلومات والآراء بين الناس” .
وإن مسألة الإعلام في الحقيقة ليست هي إلا مخاطبة الرأي العام لغرض توجيهه إلى وجهة معينة عبر إقناعه بالرسالة الإعلامية ، يقول الشهيد مرتضى المطهري (رحمه الله) :
… إن مسألة الإعلام في معناها الحقيقي والواقعي تعني إيصال رسالة معينة للناس واطلاعهم عليها بهدف جذب انتباههم وإقناعهم بمضمونها ومحتواها .
وأن الحقيقة المبدئية والرسالية لنهضة الإمام الحسين في عاشوراء تجعل من الإعلام ضرورة حيوية لا يمكن إغفالها، ذلك إن للإعلام والاتصال الجماهيري في النهضة الحسينية في عاشوراء الأهمية البالغة والمكانة البارزة، فالنهضة الحسينية كانت حركة إصلاحية إجتماعية بامتياز، حيث كانت تهدف إلى إيجاز هزة وجدانية وعاطفية لتوعية الأمة دينياً وسياسياً، سيما أنّ الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ كان متيقناً من الشهادة وأنه سيلاقي ربه مظلوماً في هذا الطريق، لذا فقد لاقت واقعة عاشوراء من النبي الأكرم محمد ـ صلى الله نعليه وآله وسلم ـ وآل البيت من بعده الاهتمام الإعلامي العريض حيث ثقف النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أمته إعلامياً وعاطفياً لتقبل مبادئ نهضة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ وتلقي رسالة عاشوراء واستيعاب أهداف ثورة كربلاء، فكان إعلام النبي وأهل بيته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على مراحل:
(قبل الواقعة ـ اثنائها ـ وبعد وقعها)..
ـ المواقف الإعلامية للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل البيت قبل الواقعة:
لقد إتبع النبي الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منهجاً إعلامياً مميزاً كان يهدف إلى خلق جو عاطفي وتضامني مع الحسين ـ عليه السلام ـ، فلقد حرص النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على بيان فضل الإمام الحسين والإخبار عن مقامه وكراماته وشرح للمسلمين أهم ملامح عاشوراء، عبر إخبار الأمة بما سيجري على الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ من بعده وأنه سيقتل مظلوماً ‘ كما وأنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أخبر بمكان قتله وأخرج للناس تربة من تربته وقال لأُم سلمة: إذا صارت التربة دما فاعلموا أن ابني قد قتل، واستطاع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يخلق رابطة عاطفية عميقة لازالت ثابتة في قلوب جميع المسلمين .
وتروي لنا كتب السير المعتبرة… أن النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان يكرر دائماً قول “حسين مني وأنا من حسين” “إنّ حرب الحسين حربي”، وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يوصي نساءه بان لا يدعن الإمام الحسين يبكي، فكان صلوت الله عليه وآله يقول “إن بكاءه يؤذيني”، ويروي المؤرخون أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان يحمل الإمام الحسين على عاتقه ويخطب في المسلمين ليبيّن فضائله ومناقبه .
ـ المواقف الإعلامية لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ:
كما وقد كان للأمير علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ دوراً مهماً في مجال الإعلام للواقعة، وفي تهيئة الظروف المناسبة لإيصال مبادئ النهضة الحسينية في عاشوراء لكي تدرك الأمة حق الإمام الحسين ومظلوميته، فقد ورد في كتب السير والتاريخ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قد أعلم الملأ ومن خلال السلوك العملي بما سيجري على الإمام الحسين عليه السلام، عندما نزل بأرض كربلاء وهو في طريق عودته من حرب صفين،
… عن أصبع بن نباته أنه قال: أتينا مع علي فمررنا بموقع قبر الحسين فقال علي: هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، هاهنا مهراق دمائهم، فتيه من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض .
وعن أبي جحيفة: جاء عروة البارقي إلى سعيد بن وهب فسأله وانا اسمع فقال: حديث حدثتنيه عن علي بن أبي طالب، قال نعم بعثني مخنف بن مسلم إلى علي فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده ويقول: “هاهنا هاهنا”، فقال له رجل: وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟
قال: “ثقل لآل محمد ينزل هاهنا فويل لهم منكم وويل لكم منهم” فقال لهم الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟
قال: ” ويل لهم منكم تقتلونهم، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار” .
فأي إعلام أصدق من إخبار أمير المؤمنين بين المسلمين بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأي دلالة أبلغ من هذه الدلالة العلمية التي تركت أثرها أمداً طويلاً حتى بقيت في أذهان المتلقين، محفورة في قلوبهم حتى نقلت فعل الإمام ـ عليه السلام ـ وقوله جميع كتب التاريخ المعتبرة .
ـ إعلام الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ أثناء الواقعة:
لقد مارس الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بنفسه الحملة الإعلامية لنهضته في عاشوراء قبل إستشهاده وواجه الأمويين برفضه لبيعة يزيد، وذللك في ليلة السبت لثلاث بقين من رجب عندما طلبت منه البيعة ليزيد فامتنع (عليه السلام) من فوره، ولما أصبح الصباح عزم (عليه السلام) على إعلان رفضه جهرة للأمة وذلك من خلال نزوحه عن مدينة جده تحت جنح الظلام في ليلة الأحد ليومين بقيا من شهر رجب وتحركه نحو مكة مصطحباً معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته …
كما وقد خطط الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ جيداً لإنجاح نهضته وضمان استمرارها على مدى التاريخ فاهتم لأمر الإعلام لهذه النهضة، واتخذ من مكة مقراً لتحركه الإعلامي لاسيما وأنه قد هاجر اليها ومكث فيها في أشهر كريمة مشهودة عند المسلمين وهي ” شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة”، إذ تحرك من المدينة في الثامن و العشرين من رجب وبقي في مكة حتى يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد عكف الإمام ـ عليه السلام ـ في هذه المدة على الإعلام لنهضته و شرح أسباب مواجهته لحكومة يزيد، وقد أعلن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ جوهر نهضته و مبدئية ثورته عندما ذكر في وصيته ـ عليه السلام ـ لأخيه محمد بن الحنفية.. “إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر” . ولقد أعتمد الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ أسلوب المصارحة فصارح الأمة إعلامياً و خاطبهم بالمسلمات عندهم و المشهورات وكل ما لا يحتاجون لفهمه إلى براهين و إستدلالات، إذ أنه في منهجه الإعلامي أعلن عن أسباب نهضته و أهدافها وقدم شرحاً بسيطاً للأمة حيث قال في معرض رده على عامل الشام في المدينة عندما طالبه بالبيعة ليزيد: “إنّا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة .. و يزيد رجل فاسق شارب للخمر.. و مثلي لا يبايع مثله” .. فاستعان بالثوابت الحسية و المسلمات كي يتيح للأمة أن تختار طريقها و تحدد مسيرتها بحرية وكي تحكم على مسألة النهضة الحسينية بوضوح و بدون أي تعتيم أو استغفال، فإن طيش يزيد و ظلمه من الأمور التي يشهد بها جميع المتقدمين و المتأخرين و إن فضل الإمام الحسين و كراماته من المسلمات لدى جميع المسلمين، ولقد إعتمد الإمام الحسين ذات المنهج والأسلوب الذي أسس له جده النبي الأكرم ـ صوات الله عليه ـ إذ استمده من الأسلوب القرآني في الهداية و الإرشاد و التوجيه..
ـ المواقف الإعلامية للسبايا من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بعد الواقعة:
بالرغم من أن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ كان قد أدى دوره في إعلام الناس و توجيههم و قدم لهم النصيحة قبل أن يستشهد، “لكن حاجة الثورة إلى الإعلام بعد شهادته ـ عليه السلام ـ ستكون أشد و أكبر لأن الأمويين ستأخذهم نشوة الانتصار و سيجعلون من سحق المعسكر الحسيني مثلاً وعبرة لإرهاب من يفكر في معارضتهم و الوقوف أمام بغيهم و فسادهم فالإعلام بعد الشهادة أكثر أهمية من قبلها” .
فكان السبيل الوحيد لضمان وصول رسالة النهضة الحسينية في عاشوراء للأمة و إحباط التأثير السلبي للإعلام الأموي هو إدارة المرحلة الثانية من النهضة وهي المرحلة الإعلامية.. “وكانت زينب الشاهدة على نهضة السبط الشهيد لأنها حملت رسالتها إلى الآفاق .. ولأن النهضة أساساً كانت تهدف بث زلزال في الضمائر فإن دم الشهداء كان سيذهب سدى من دون دور الشاهدة العظيمة زينب ودور الشاهدين الآخرين معها” . وبالفعل فقد نجحت العقيلة زينب ومن معها ممن شهدوا الواقعة بالتحكم والسيطرة في الموقف الإعلامي بجدارة منقطعة النظير، وتمكنوا من إحداث شيء أشبه بالمعجزة من خلال تحكمهم بدفة المشهد الإعلامي وتحويله لصالح الثورة الحسينية تماماً.
يقول الدكتور الشهيد مرتضى المطهري.. لقد ظن الأمويون أنهم يطوفون المدن والبلدان بموكب يضم مجموعة أسارى و سبايا، موكب لا يشكله إلّا مجموعة من اليتامى والأرامل المفجوعين، لكنهم في الحقيقة إنما كانوا يسيرون معهم دعاة و مبلغين و إعلاميين . حتى إضطر يزيد بنفسه إلى التبرء من قتلة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ و إقامة المأتم و مجالس النياحة على شهداء الطف في قصره بعد أن كان قد أعد القصر، بل و أعد الشام كلها لأجل الإحتفال بقتله، إلى الدرجة التي يحسب فيها الوافد إلى الشام حديثا أن للشام عيداً لا يعلمه المسلمون.
ولولا هذه المواقف الإعلامية للنبي ـ صلوات الله عليه ـ و أهل بيته في مراحل الثورة الثلاث، لما إستطاع الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ أن يحقق هدف ثورته و لما وصلتنا نسمات الحرية و أريج عطر المقاومة فيها…
نهى القطراني ـ العراق