تمرّ السنين و الأيام والذكرى تبقى هي الذكرى، والهدف الذي رُسم ينمو و يكبر ليكتمل و يتحقق بالتضحيات الجسام التي قدّمها الشهداء على مذبح الحريّة، ليتولد منها فكر وقّاد ينير لنا درب الحياة.
إنها الشهادة التي تعطي للحياة معناها الحقيقي فلا عزّة بلا شهادة، ولا كرامة بلا تضحية، ولا أصالة، بلا عطاء، لذلك أعطت الشهيدة أم ياسر أغلى مالديها وهو روحها و زوجها و ولدها، بيت واحد، جمعهم الإيمان فخلّدهم الزمان، أعطوا الأمة بلا امتنان ورحلوا إلى الرفيق الأعلى إلى جنةٍ و رضوان فكانا حقاً (أميرا قافلة شهداء المقاومة..)
السيدة الشهيدة
ولادتها ونشأتها:
ولدت عام 1958م في أسرة موسوية عريقة، اشتهرت بالتديّن و الالتزام في بلدة “النبي شيث” و اسمها “سهام”. نشأت في ظل والديها اللذين توسّما فيها مزايا وخصال و ميّزتها عن إخوتها من الوعي و الإدراك و الذكاء والقدرة على تحمّل المسؤولية والأخلاق الحسنة التي صقلتها حضور المجالس الحسينية.
زواجها:
عُقد قرانها على طالب العلم المجاهد الشهيد “السيد عباس الموسوي” وقد تحدّثت والدتها عن هذا الأمر فذكرت أنها تردّدت في البداية لأن أجواء العلماء لم تكن مألوفة لدى الناس ولكن قوّة إيمانها و إدراكها و قناعتها بالسيّد دفعها للقبول وقد رضيت بالقليل من الجهاز المتواضع الذي احتوى على بعض الحاجيات الضروريّة لكل فتاة، ورضيت بزواجٍ عائلي بسيط مع أنّه لها من العمر آنذاك 14 سنة إلّا أنها اختارت الآخرة على الدنيا فبذلت نفسها لإسعاد ابن عمها و السهر على راحته.
صفاتها:
اتصفت الشهيدة بالإخلاص والإيمان والثقة الشديدة بالله، وكانت متواضعة ذات صدر رحب، عطوفة ورحيمة على الفقراء و المساكين والأيتام كجدتها الزهراء، حيث كانت تؤثرهم على نفسها و أطفالها و تجود لهم بأفضل مالديها، مما خوّلها حمل هموم الأمّة و مشاكلها، فواكبت مرحلة بناء المقاومة فكانت نعم السند للسيد حيث أصبح بيتها مقرّاً للمجاهدين الذين يتوافدون على السيّد لتأسيس وبناء المقاومة فكانت تكرمهم و تهيئ لهم الأجواء الملائمة وكلّما سقط منهم شهيد، سارعت للمشاركة في التشييع والعزاء مواساةً لذويهم..
دراستها:
بدأت الدراسة قبل الزواج فركزت على دراسة حياة أهل البيت، وبعد الزواج انتقلت إلى النجف الأشرف فانكبّت على الدرس و عاشت العلم فريضة وعبادة، وهناك كونت علاقة وثيقة بالشهيدة “بنت الهدى” حيث أعجبت بشخصيتها وبعملها من أجل تطوير المجتمع النسائي وتثقيفه.
محطات الجهاد في حياتها
النجف الأشرف:
عاشت الشهيدة حياة الزهد والقناعة مع زوجها في النجف، حيث الأوضاع المادية سيئة لطالب العلم، حتّى أنها ضحّت ببعض حليها ليبيعها السيد و يشتري بثمنها ما يحتاجه من كتب للدرس عند “الشهيد الصدر” وقد غادرت النجف بعد ملاحقتها من قبل النظام العراقي بسبب علاقتها بالشهيدة بنت الهدى.
لبنان:
بعد عودتها إلى لبنان استمرت الشهيدة على الدرس بالرغم من عدم الاستقرار وعندما استقرت إبتدأت التبليغ إلى جانب تحصيل العلم فكان لها دور أساسي في حوزة الزهراء التي أُسّست في بعلبك وهي الأولى من نوعها في لبنان فدرّست فيها، منشئة جيل من الفتيات الملتزمات فكانت لهنّ الأستاذة والمعلّمة و الأخت الحنون، التي تشاركهنّ جلسات الدعاء و إحياء عاشوراء إلى جانب تنقلها في القرى والبلدات للتبليغ و إلقاء المحاضرات في المناسبات المختلفة..
ومن بعلبك:
امتدّ جهادها ليصل إلى بيروت فتطوّعت مع مؤسسة إمداد الإمام الخميني في اللجنة النسائية فتسلّمت المسؤولية الثقافيّة، وعملت على توجيه الأخوات و إعطائهن الدروس الثقافية والدينية فأعجبوا بعطائها و أسلوبها المتميّز بأخلاقياتها العالية، وقد روت إحدى تلميذاتها فقالت: رافقت الشهيدة في سفرها إلى إيران، و بالرغم من ظروف الحرب الصعبة إلّا أن الشهيدة كعادتها لم تفارقها البسمة تتعاهد صغيرنا و كبيرنا بالمودة والرحمة، حتى أنّها من تواضعها كانت تساعدنا في غسل ملابسنا..
ارتباطها بأهل البيت:
للشهيدة علاقة خاصة بأهل البيت عليهم السلام، فكانت تحزنها مصائبهم وكانت تداوم على زيارتهم والتوسّل بهم، وحضور مجالسهم، وقد سعت لتربية أبناءها الستة على نفس المنوال فحملت همّ آخرتهم قبل دنياهم، فنذرتهم جنوداً للإمام الحجة “عج” الذي كانت شديدة التعلّق به إلى درجة أنّها أوصته بولدها المريض، تنقل إحدى تلميذاتها أنّه بعد استشهادها وجدوا صورة لولدها المريض وقد كتبت خلفها: “إنّي أوصي بك الإمام صاحب الزمان و أتركك في رعايته”.
ولائها لخط الإمام الخميني (قدس سره):
دأبت الشهيدة على اتّباع النهج المحمدي الأصيل، فتمسّكت بولاية الفقية وتفاعلت مع فكر الإمام و نداءاته، بالخصوص فيما يتعلّق برفع شأن المرأة بتعليمها، ورفع غشاء الجهل و التخلّف عنها، وعندما توفّى الإمام الخميني حزنت عليه حزن البنت لفراق أبيها.
استشهادها:
عاشت الجهاد بكل أنواعه و توّجته بشهادةٍ طالما تمنتها، ففي 16 شباط ذهبت مع زوجها لإحياء ذكرى استشهاد أخيه “الشيخ راغب حرب” و إصطحبوا طفلهما الصغير حسين ذا الخمس أعوام، وبعد أن أحيوا الذكرى، زاروا قبر الشيخ الشهيد وبقية الشهداء وغادروا بلدة جبشين فكان نصيبهم قذائف إسرائيلية قطعتهم أشلاء تتناثر على أراضي الجنوب اللبناني لتخرج الصهاينة من أرض لبنان أذلّاء مرغمين.
فسلام الله عليها وعلى زوجها يوم ولدا ويوم استشهدا ويو يبعثان أحياء …
بعض أقوالها:
1. إنّ الاقتداء بالزهراء ـ عليها السلام ـ مسؤولية كبرى ملقاة على عاتقنا جميعاً، لا يكون اقتداء إلّا بعد أن يتحقق بالموقف الذي يتجسّد بالفعل أو بالكلمة إن كان الموقف كلمة.
2. إن الإمام الخميني رسم لنا منهاجاً صحيحاً، هذا المنهاج إن سرنا عليه سنصبح النساء المثاليات لزمان الإمام الحجة “عج” من الممكن أن لا أكون اليوم بنت القرآن لكن الإمام رسم الخطّة لكي يقول لي: “مطلوب أن تكوني بنت القرآن ولو بعد حين”..
أم علي رضا مدلج ـ لبنان