ماذا أقول يا سيدي وماذا أتحدث عنك أيها المولى المقدس، فقد عجزت الألسن عن الوصول إلى علو منزلتك و الأقلام عن وصف عظمة مقامك فكيف بلساني الكليل وقلمي القاصر.. لكن إذا كان لابد من الكلام فاستميحك عذراً سيدي بأن أتطوّل على ساحة منزلتك و شأنك.. و أذكر بعض الشذرات عنك و أنا العبد العاصي ..
كنّا نزوره و نتشرف بلقائه على الدوام، فنحس معه بنسائم الرحمة الإلهية ومن شخصه تجليّات المواهب الربانية ومن سلوكه الرحمة المحمدية ومن تقواه وصلابته القوة العلوية ومن حسن خلقه السماحة الحسنية ومن شجاعته و إقدامه الهمّة والغيرة الحسينية وقد جابه في عمره الشريف صوراً و أشكالاً من المصائب و الخطوب و الأهوال و الأحوال.. فقد ماثل في السنوات التي أقام فيها في البيت جبراً – بعد شهادة السيد محمد باقر الصدر – المحنة والتقية السجادية..
وماثلت السنوات التي صدع بالأمر بها وتصدى للمرجعية الفسحة والفترة الباقرية و الجعفرية وفي أيام سجنه وحجزه بيد الطغاة المحنة الموسوية، ومن إثبات و إقامة الحجة على محبيه ومعانديه بالحجة الثامنة الرضوية، وفي كرمه وبذله للقاصي و للداني السخاوة الجوادية.. ومن عظم الشأن والذكر الحسن الشخصية الهادوية، وفي مراقبته ومضايقة الحكام له الشدّة العسكرية ومن القيام بالأمر و تحمّل المسؤولية بالنهضة المهدوية …
فسلام الله عليك يا سيدي ومولاي وعليهم ورحمة الله وبركاته..
أذكر في هذه العجالة بعض صفاته (قدس سره)
أولاً: الشجاعة
بعد شهادة الشهيد السيد محمد باقر الصدر، تركت الحوزة و طلابها و أهملت المدارس الدينية و روّادها لسنوات عديدة إلى أن تصدى السيد محمد الصدر المرجعية فأخذ بيد الحوزة و انتشلها من الضياع فأحيى دروسها و أرجع لها مدارسها و أسكن طلاب العلم فيها.. مع علمه أن الطاغية و زمرته يمنعون هذه الأمور منعاً باتاً.. و هو الذي أحيى صلاة الجمعة بشجاعته و إقدامه فلبس الأكفان و صاح “كلا.. كلا يا شيطان.. كلا كلا أمريكا..” على الرغم من أن الطاغية قد أمر مدير الأمن العام بتهديده للعدول عن الصلاة و الخطبة وهو الذي أرجع شعيرة السير إلى الإمام الحسين – عليه السلام – بعد أن كان السائرون يقتلون تحت ذريعة التظاهر ضد الدولة.
ثانياً: الزهد
فكان لا يأكل إلا القديم من الطعام ولا يسرف فيه ولا يطلب الكثير منه ولا يزيد من أنواعه على سفرته وكان (قدس سره) لا يرضى باستعمال مكيفات الهواء في غرفته و مكتبته على الرغم من أنه كان مبتلى بمرض جلدي لذا نصحه الأطباء بالتواجد في الأماكن الباردة إلا أنه أبى استعمال مثل هذه الأجهزة لزهده بأمور الدنيا و لكي يعاني كما يعاني الفقراء و المساكين فيشعر بشعورهم و يشخص احتياجاتهم فكانت عيشته مثل عيشة الفقراء يأكل كما يأكلون و يسكن كما يسكنون و يلبس كما يلبسون.
ثالثا: التواضع
فقد كان يجالس الناس ولا يتصدر المجالس ولا ينتقي أفضل الأماكن فهو يجلس أينما إنتهى به المجلس ويحب الجلوس على الأرض ولا يفترش فراشاً إلّا نادرا، يبادر الأصدقاء والأعداء بالسلام بوجه بشوش لا يفوح منه إلا التواضع و المحبة.
يهتم بالجميع على السواء فيعود المريض و يزور العلماء و يواسي الفقراء و يقبل دعوة من دعاه مرجعاً كان أو طالباً أو أقل من ذلك، يزور أتباعه في منازلهم و يؤمن لهم ولعوائلهم أقواتاً تكفيهم..
و من صفات المولى المفدى أيضاً عدم السكوت عن الباطل شأنه في ذلك شأن أستاذه وإبن عمه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فكان يبادر إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإذا رأى منكراً نهى عنه و إذا رأى معروفاً رغب فيه .. فهو ذاك الأسد الغضنفر الذي أمر موظفي الدولة في زمن الطاغية بالتوبه والهداية و أمر سدنة العتبات المقدسة في زمن صدام اللعين بالتوبة و الهداية مع أنه في ذلك الزمن لم يتجرأ أحد غيره بالتحدث مع الناس و نصحهم، لذا سمّي بالحوزة الناطقة المجاهدة..
رابعاً: كثرة العبادة
فكان محباً للعبادة من صلاة و صوم ومنذ شبابه يصوم أشهر عدة ولا يشرب الماء في أشهر أخرى (في شهري محرم و صفر مواساة للإمام الحسين – عليه السلام – كان لا يشرب الماء) وكان يبادر إلى الصلاة بوقتها فرادى كانت تلك الصلاة اليومية أم جماعة، وما ترك صلاة الليل قط ولا التهجد والتسبيح و الذكر في الليل و النهار ولا يقطع تلك العبادات الليلية مهما اشتد به المرض وزاد البرد أو الحر فهو من المواظبين عليها كلها قربة إلى الله تعالى فكان بحق نعم العبد لنعم الرب الذي منّ عليه بالعلم و الهيبة و الوقار و محبة الناس و علوم الباطن…
إلى أن توجت هذه المنن بالشهادة، ولن أنسى يا سيدي ما حييت صوت تهجدك و مناجاتك مع ربك ليلاً، وصوت تسبيحك و مسبحتك و أنت تحمد و تهلل وتكبر ربك صباحاً، فلا تشرق شمس إلّا وقد سلّمت عليك و أطلت على حائط غرفتك تستأذنك بالطلوع…
سيدي .. كنت لنا أباً رحيماً.. تسأل عنّا وعن أحوال صغيرنا وكبيرنا، تتفقدنا إذا غبنا وتفرح بنا إذا قدمنا.. تحاورنا على قدر فهمنا .. تنصحنا لكن بلطف .. تردعنا لكن برفق..
فوجدنا فيك قمة مبتغانا وغاية ما نأمل فأنت الأب الحنون و المربي العارف و العالم المبدع و المجتهد المجد و …
آه … ما أجمل اللحظات و السويعات التي كانت تجمعنا معك في جلسة عائلية نتبادل فيها أطراف الحديث، أو على سفرة طعام يجتمع عليها صغيرنا و كبيرنا.. أو في الأوقات التي كنا نصلي خلفك جماعةً أو جمعة فكانت تذكرنا و ترجعنا لعصر المعصومين – سلام الله عليهم أجمعين – .
سيدي .. تتجدد كل عام ذكراك فيتجدد الحزن و تنهمر الدموع و يدما القلب فكيف لا تراك أعيننا وكانت لا تطيق يوماً من دون رؤياك، أم كيف نجتمع و أنت لست بيننا.. فها نحن وحيدون في ظلمات الدنيا لا بصيص لنا في تلك العتمة الحالكة إلّا ما تركت من نهج و قبس من سيرتك العطرة وسيرة آبائك وأجدادك الطاهرين، نتمسك بها ماحيينا إن شاء الله تعالى وذلك عهد علينا أمام الله و أمام رسوله وأهل بيته ..
سلام الله عليك يا سيدي يوم خلقت جنينا..
و سلام الله عليك يا سيدي يوم ترعرت صبيّا..
و سلام الله عليك يوم كبرت فتيّا..
و سلام الله عليك يا سيدي يوم تتوجت بهيا..
وسلام الله عليك يوم كنت لنهج الصدر الأول متمماً..
و سلام الله عليك يا سيدي يوم اجتهدت جلياً..
و سلام الله عليك يا سيدي يوم صرت ولياً..
وسلام الله عليك يا سيدي يوم صليت الجمعة ملياً..
و سلام الله عليك يوم أذقت الظالمين صلياً..
و سلام الله عليك يا سيدي يوم استشهدت أنت و ولديك و رفعتم مكاناً علياً..
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته…
أم علي الصدر ـ العراق