جاء في التفاسير و كتب اللغة أن المدح هو نقيض الهجاء، كما أن الحمد هو نقيضٌ للذم والشكر نقيضٌ للكفران[1]. و جاء في تعريف المدح أنه (الثناء الجميل مطلقاً)[2]، وأن المدح يعم كل ما هو جميل في الوجود من أفعال، و ذوات وحتى الجماد يمكن أن يوصف بالمدح. فيقال ( مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض، وقد إشتهر اللؤلؤ بالمدح)[3]، أما بالنسبة للأشخاص فالمدح يختص بأفعالهم دون ذواتهم وسيأتي توضيح ذلك إنشاء الله..
وبعد أن تعرفنا على حقيقة ومعنى المدح فننتقل إلى الشريعة الإسلامية لنتعرّف على مكانته فيها ونظرتها إليه:ـ
ـ هل ورد مفهوم أو مصداق المدح في القرآن الكريم؟
و للإجابة على هذا السؤال قصدنا كتب التفاسير المعتبرة لدى الفريقين فتوصلنا إلى مايلي:ـ
- لقد مدح القرآن الكريم النبي إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ و مدحه بالصفة حيث قال ـ عزوجل ـ : “و إنه في الآخرة لمن الصالحين”[4].
- ورد في القرآن الكريم مدح نبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، إذ قال فيه تعالى: “وإنّك لعلى خلق عظيم”[5].
- ورد في القرآن مدح الأمة الإسلامية إذ قال تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”[6].
ومن خلال التمعّن في هذه الآيات الكريمة و مضمون المدح فيها نجد أن المدح إنّما يتوجه لصفات الممدوحين وأعمالهم لا لأشخاصهم و ذواتهم، مما يشير إشارة واضحة إلى أن المدح أو الذم في القرآن يصب في هدف تربوي و أخلاقي ملموس وبقول المفسر الكبير العلامة السيد الطباطبائي “إن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق الآخرين معللاً بوجود صفات فيهم لا يمكن قصرها على شخص مورد النزول”[7].
أهداف المدح و آليته في القرآن الكريم
جاء في تفسير مجمع البيان.. أن الله سبحانه قد مدح إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ توصفه (وأنه في الآخرة لمن الصالحين)[8]، ولم يقل أنه لفي أعلى منازل الصالحين مع إقتضاء حاله و مكانته وشرفه، وما ذلك إلا لأجل الترغيب في الصلاح.. فإن الله عزوجل، يبين أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ من جملة الصالحين مع علو مرتبته و شرف منزلته وذلك لجملة من الأهداف أهمها:
- تشريفاً للصالحين
- تنويهاً بذكر من هو منهم
- ترغيباً في الصلاح[9]
فالقرآن إذن يهدف من وراء مدح الصالحين تشريفهم و بيان منزلتهم و إستدعاء الناس لأن ينظمّوا إليهم، والقرآن الكريم يتخذ من المدح أسلوباً تربوياً للترغيب و الدعوه للتشبه بصفات الممدوحين و سلوك طريقهم والتحلي بأخلاقهم، يقول العلامة السيد الطباطبائي: “العقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن، وذم العاصي و المسيء بمجرد صدور الفعل من فاعله غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلاً للتغيير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن ل[10]لتغيير والزوال”.
وهكذا فإن آلية و أسلوب المدح في القرآن تكمن في تتويجه للفعل الحسن الصادر من الفاعل، ففي عرف القرآن إستحقاق المدح متوقف على صدور الفعل الحسن و بقاء الصفة الحسنة ولا يتعلق بالذات أو الجوهر الإنساني، وهذا كون المدح قاعدة عقلائية مسلم بها (فمن العقل وجوب شكر المنعم و إستحقاق المدح على الفعل الموجب للمدح)[11].
يتبين لنا مما تقدم أنه المدح يعتبر أسلوباً تربوياً و توجيهياً مؤثراً في عملية الإصلاح والتربية القرآنية، مما يفسح للتربويين المجال في إستخدام هذا الإسلوب لما له من مكانة في الحث على الخير والدعوة إلى الصلاح ولكن بملاحظة مجموعة من الشروط و الملاحظات نلخصها بالتالي:ـ
- أن لا يمتدح الإنسان لشخصه ولا الابن لذاته، بل ينبغي ذكر خصلة الخير، أو العمل الصالح الذي إستحقّ بسببها أو لأجل القيام به، هذا المدح والإطراء.
- عند مدح الطفل أو الناشئ يجب أن يكون التركيز على زرع بذرة حب الصلاح و تنميتها في نفسيته، و تقوية الضمير لديه. فيكون إشتياق الطفل الممدوح للخير و الصلاح بدلاً من الشوق للمدح و الإطراء فإن حب المدح والإطراء يورث الخسارة والندم..
- أن يكون المدح لهدف تربوي، لا مجرد الذكر والتنويه، وعلى المادح أن يتجنب عكس مشاعر وأوضاعه النفسية في المدح و خصوصاً في حالة مدح الوالدين لطفلهم. فيكون الهدف هو حث أفراد الأسرة على الإقتداء بالممدوح لأنه إذا شعر الطفل بالحب والحنان والتقدير من قبل أهله فإنه يحاول المحافظة على ذلك، فيستمر بالخير والصلاح.
- أن لا يكون المدح بشكل مبالغ فيه بحيث يجعل من الشخص الممدوح ملاكاً أو شخصاً كاملاً، فتغلق أبواب التكامل بوجهه، ذلك أن المدح غير المتوازن مخاطر كمخاطر التربية السيئة، لذا فلابد من “أن يقوم الوالدان بوضع برنامج خاص يوضحون لأطفالهم فيه المحبوب والمذموم من الأعمال ويكون المدح و التأنيب منصباً على العمل لا على الأشخاص”[12]. كما أن المدح الزائد بمحاسن الطفل تورثه الدلال الزائد فلقد ثبتت أنه “تظهر سيرة الأطفال الذين نشأوا معجبين بأنفسهم في أوقات مختلفة و بأشكال متنوعة، هؤلاء يؤذون أباءهم وأمهاتهم بأفعالهم، وتصل المآسي والمشاكل الإجتماعية التي يلاقيها الأطفال المدللون والمعجبون بأنفسهم قمتها عندما يتركون دور الطفولة و يدخلون في المجتمع الحقيقي إذ أنهم يكتشفون عدم كفاءتهم”[13]، وقد ورد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنه قال: “بالرضا عن النفس تظهر السوءات والعيوب”[14]، وقال كذلك: “من رضي عن نفسه ظهرت عليه المعايب”[15]… وقوله تعالى: “لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم”[16]… فإن السر لعظمة العظماء يكمن في تواضعهم و إتهامهم لأنفسهم فهم في خوف دائم من التقصير أو عدم القيام بالواجب.
- أن يتفق الوالدان على تشخيص مناسبات المدح فلا يتشتت ذهن الطفل.
- يفضل أن لا يمدح الشخص أمامه و بحضوره وذلك لمساوئ المدح و مخاطره على نفسية الممدوح وقد ورد من الأئمة و المعصومين ـ عليهم السلام ـ الكثير من الأخبار التي ينهون فيها المادحين فقد جاء في الحديث: “أحثوا في وجه المادحين التراب”، وقد مدح قومٌ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وجهه فقال: ” اللهم إنّك أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم إجعلنا خيراً مما يصفون و أغفر لنا مالا يعلمون”..
نهى القطراني ـ العراق
[1] مجمع البيان للشيخ الطبرسي، جـ 1 ص 55
[2] كنز الدقائق، الميرزا محمد المشهدي جـ 1 ص 63
[3] أنظر تفسير القرآن الكريم للسيد مصطفى الخميني جـ 1 ص 68
[4] البقرة آية 130
[5] القلم آية 4
[6] آل عمران آية 110
[7] الميزان في تفسير القرآن للسيد الطباطبائي جـ 1 ص 42
[8] مجمع البيان للطبرسي
[9] مجمع البيان
[10] الميزان للطباطبائي جـ 2 ص 16
[11] تنبيهات تمهيدية ص 92
[12] الطفل بين الوراثة والتربية ص 88
[13] الطفل بين الوراثة والتربية ص 65
[14] غرر الحكم ص 308
[15] غرر الحكم ص 308
[16] آل عمران آية 188