إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه وكراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء والنجم ، وتفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه :
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ الإسراء / ١ ].
١ ـ إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح وقال : ( سُبْحَانَ ) (1) وهي كلمة تنزيه لله عزّ اسمه عمّا لا يليق به من الصفات ، وقد يراد به التعجيب ، ولكن الظاهر هو الأوّل.
ولعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لما سيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة ، ويمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم والجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله وصفات كماله ، حتّى لا يتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية الله تبارك وتعالى في ملكوت عرشه وجبروت سلطانه ، والأوّل أقرب.
٢ ـ الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال : سرى بالليل وأسرى بمعنىً ، وأمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.
٣ ـ قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح والجسد يقظة لا مناماً ولم يطلق العبد في القرآن إلّا على المجموع منهما. قال سبحانه : ( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) [ البقرة / ١٧٨ ] ، وقال سبحانه : ( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ) [ البقرة / ٢٢١ ].
إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد والتي تناهز ٢٨ آية ، ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة ، ولو كان الإسراء بمجرّد الروح ، مناماً لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظماً ، وما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال : كان رؤيا من الله صادقة ، مرفوض فإنّ معاوية يومئذٍ كان من المشركين لا يقبل خبره في مثل هذا ، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال : ما فقد جسد رسول الله ولكن اُسري بروحه ، فإنّ عائشة يومئذٍ كانت صغيرة ولم تكن زوجة رسول الله ، بل لم تولد بعد على إحتمال ، وهناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي :
« الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنّ الله أسرى بعبده محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ الله حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات ، ولا معنى لقول من قال : اُسري بروحه دون جسده ، لأنّ هذا الإسراء لا يشكّل دليلاً على نبوّته ولا حجّة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد ، فإنّ الله إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده ولم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده ، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره ـ [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول الله اُسري به على دابة يقال لها البراق ، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لا تحمل إلّا الأجساد (2).
٤ ـ ( لَيْلاً ) وهو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلا يستفاد ذلك من لفظ الإسراء ، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.
قال الزمخشري : إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك إنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة ويشهد لذلك قراءة عبد الله بن حذيفة : « من الليل » أي بعض الليل ، كقوله : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) ( أي من بعضه ) (3). ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها ، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة ، في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.
وحكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ، حيث قال : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) [ النمل / ٤٠ ].
فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس ، ممّن سبقه ، صحّ وقوعه منه (4).
وها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل وينتقل من قارة إلى قارة ومن قطر إلى قطر بيسر وسهولة ، وهذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً ، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة وهو الذي خلق ضعيفاً ، فالله سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد ( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ).
٥ ـ ( مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) وهذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير ومنتهاه ، وأنّه ابتدأ من المسجد الحرام وانتهى إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بقرينة قوله : ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ )والقصى العبد ، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي ومن معه من المخاطبين وهو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».
وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه اُسري به من دار اُم هاني اُخت علي بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي ، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم نائماً تلك الليلة في بيتها ، وأنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، والحرم كلّها مسجد (5).
وقال بعضهم : إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.
والوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب ومع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين :
الأوّل : إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف ومتبرّك يطلق اسمه على جميع المكان ، نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق ويراد منه ذو الحليفة ، ومشهد الإمام عليّ عليه السلام يطلق ويراد منه النجف برمّتها ، إلى غير ذلك ، ومن الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام ، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة والبيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.
الثاني : أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني أو من الشعب ، ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه السلام فقال : جعلت فداك وكم عرج برسول الله ؟ فقال : مرّتين (6).
٦ ـ ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حتّى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك انّه سبحانه جعله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة ، فقد اجتمعت فيه بركات وخيرات الدين والدنيا.
٧ ـ ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) والجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء وهو إراءة عجائب الآيات وغرائب الصنع ، ومنها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى ، وهي فترة قياسية خارقة للعادة.
فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء ، فيكون المراد من الآيات التي أراه الله سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء وقبورهم وآثارهم.
وأمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فيتّسع نطاق الآيات ، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها الله سبحانه ، وحيث أراه بعضها لا كلّها ، وفيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع النبي من إسرائه بصدر منشرح وقلب متفتّح قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال ، وأمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية الله سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير.
وفي الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع : عن ثابت بن دينار ، قال سألت زين العابدين ـ علي بن الحسين ـ عليه السلام عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال :تعالى عن ذلك ، قلنا : فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.
وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام : لأيّ علّة عرج الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، والله لا يوصف بمكان ؟ فقال عليه السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ويخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان الله وتعالى عمّا يشركون.
٨ ـ ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا تعليل لإراءة آياته ، ومعناه أنّه سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم ، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه ويبصر أفعالهم.
الهوامش
1. سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر لا يظهر تقديره يسبّح الله سبحان ، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل وسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.
2. تفسير الطبري : ج ١٥ ص ١٣٠.
3. الكشّاف : ج ٢ ص ٢٢٣ ( طبع مصر ).
4. تفسير المراغي : ج ١٥ ، ص ٦ ، بتصرّف يسير.
5. مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٩٩.
6. نور الثقلين : ج ٣ ص ٩٨.