تسلل اليأس تحت جنح الطغيان الأعمى, تغلغل إلى أعماق نفوس أبناء الوطن. فترددت همسات مخنوقة بين الثنايا المرتجفة. كلا… كلا… لا فائدة… لا يمكن تسمية ما نحن فيه وطن … تساقطت روابط الوطنية رابطاً إثر رابط…
وخلع المواطنون عن أعناقهم قلائد الوطنية… فالوطن ليس وطنهم … إنه وطن البعثية والصداميين…
تقاطر المهاجرون وقرروا هجرة هذا الوطن بخفية حتى بلا وداع. فلا يجوز أن يلتفت منهم أحد. وإلا فإنه سوف لن يقوى على مقاومة استغاثات أرضه واستنهاض أهله وناسه. فيذوب حزناً ويحترق لوعةً حتى قبل أن تقنصه رصاصات حرس الحدود المسعورين.
اقتربت لحظة الفراق مع آخر حبة من تراب الوطن اشتدت خفقات القلوب , وتسارعت النبضات.
يا مواطن إلى أين أنت ذاهب ؟ إلى من تترك وطنك وكيف يمكنك أن تهجر أرضك؟!…
كلا… كلا… لا مجال, ولات حين مناص, فالبحر أمامي وجيوش الكفر الأسود من ورائي..
أيها المواطن إلى أين أنت مهاجر؟! أيمكنك أن تجد وطناً كهذا الوطن؟!
ها… وطن ! ما معنى كلمة وطن ؟ واو طاء نون
فـ واوُهُ ويلات , وطاؤه طامات, ونونه نياحات.
كلا… كلا… لقد قتل كل شيء في داخلي باسم وطن.
مرت السنون وتمادت العقود , والمواطن يعيش على أمل إيجاد وطن… إلى أن آن الأوان وأزف الزمن .
جاءت اللحظة التي يعود فيها ذلك المواطن إلى أرضه على أمل رؤية ما يسمى بـ ( الوطن)
عاد المواطن بشعر أبيض وظهر محني فلقد طالت مدة فراقه وطنه ثلاثون سنة , كانت تداعب أيامها ذكريات جميلة , وتطرز لباسها أحلام خميلة تُمَني النفس بشيء اسمه وطن .
اقترب المواطن من حدود الوطن, حاول جاهداً إيهام مشامّه بعطر يشبه عطر الوطن, رمى ببصره إلى الضفة المقابلة علّه يرى نخيل الوطن.
حاول مراراً إلى أن اضطر إلى أن يغمض عينيه ويستحضر صوراً من مخيلته كان قد رسمها لوطنه في أيام الغربة.. لكن لا جدوى.
فوطنه لا تنبعث منه إلا روائح الدم والبارود والغدر والخيانات.
وإذا به يجد حتى الأمل والخيال بإيجاد وطن قد قُضيَ عليه …
فلقد تم اغتيال كل شيء في نفسه تحت اسم وطن..
لقد سُرقت منه في الماضي الهوية.. ولم يُبقوا له إلا قضية.. والآن تم سرقة القضية..
وبهذا أجهزوا على كل شيء اسمه (وطن).
أم محمد العامري – العراق