كان الامام الشهيد (قدس سره) يؤمن بالأهمية القصوى للأمة ودورها المتقدم في صناعة حاضرها ومستقبلها، وكان يرى أن دور المرجعية الحقيقي ومجال عملها هو الامة كلها، لذلك كان في كل نشاطاته ومشاريعه يسير بالإتجاه الذي يخدم الامة ويعيد ثقتها بنفسها من أجل أن تمارس دورها المطلوب الذي تتطلع اليه وتسعى نحوه.
لم يشعر السيد الشهيد في يوم من الايام أنه معزول عن مجتمعه، بل أنه كان يعاني من حالة العزلة الموجودة بين المراجع التقليديين والأمة، وكان يرى أن دور المرجعية غير هذا الدور الذي درج عليه التقليديون منذ زمن طويل، فالأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية قد تغيرت كثيرا، وبرزت تحديات جديدة وحاجات جديدة تستدعي تنظيم العمل المرجعي ونقله من الحالة الفردية (الذاتية) إلى الحالة الموضوعية ـ كما عبّر عن ذلك رضوان الله عليه.
لقد أراد السيد الشهيد أن تتخلص المرجعية من الفردية لتكون خطاً شاملاً في الامة، فإذا انتهت حياة المرجع، فأن خطه يظل ممتداً متنامياً في حياة المرجع الذي يليه.
ومن أجل أن نتعرف على رؤيةاالاستاذ والقائد المرجع الشهيد رضوان الله عليه في هذا المجال نورد هنا اطروحته الرائدة المعروفة بالمرجعية الصالحة وكما دوّنها استاذنا سماحة آية الله السيد الحائري مدّ ظله في مقدمة كتابه مباحث الأصول.
1_نص الأطروحة:
(إن أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الأهداف، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي، تتصرف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة.وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كل الأوضاع التي يمتد إليها تأثيره ونفوذه.
أهداف المرجعية الصالحة:
ويمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة رغم ترابطها وتوحد روحها العامة في خمس نقاط:
-1-نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.
2_-إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكد بان الإسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.
3-إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مد كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.
4-القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حق منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ.
5-إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.
ووضوح هذه الأهداف للمرجعية وتبنيها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها العامة ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأمة، ولكن لا يكفي مجرد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على اكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعية الصالحة، لان الحصول على ذلك يتوقف -إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه واستهدافه-على عمل مسبق على قيام المرجعية الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات على أسلوب المرجعية ووضعها العملي من ناحية أخرى.
أما فكرة العمل المسبق على قيام المرجعية الصالحة فهي تعني أن بداية نشوء مرجعية صالحة تحمل الأهداف الأنفة الذكر تتطلب وجود قاعدة قد آمنت بشكل أو بآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الأمة، وإعدادها فكرياً وروحياً للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعية الصالحة، إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح أفكاره وتصوراته وتنظر إلى الأمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كافٍ لإيجاد المرجعية الصالحة حقاً وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.
وبهذا يكون لزاماً على من يفكر في قيادة تطوير المرجعية إلى مرجعية صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين -بالرغم من صلاحهم-يشعرون عند تسلم المرجعية بالعجز الكامل عن التغيير لأنهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحددوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعية والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.)1
مراحل المرجعية الصالحة:
للمرجعية الصالحة ثلاث مراحل:
1-مرحلة ما قبل التصدي الرسمي للمرجعية المتمثل بطبع رسالة عملية، وتدخل في هذه المرحلة أيضاً فترة ما قبل المرجعية إطلاقاً.
2-مرحلة التصدي بطبع الرسالة العملية.
3-مرحلة المرجعية العليا المسيطرة على الموقف الديني.
وأهداف المرجعية الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث، وفي المرحلة الأولى يتم إنجاز العمل المسبق الذي اشرنا إليه سابقاً وإلى ضرورته لقيام المرجعية الصالحة.
وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعية ممارسة اقرب إلى الفردية بحكم كونها غير رسمية ومحدودة في قدرتها، وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعي.فالمرجعية في هذه المرحلة ذاتية، وان كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير في شكل المرجعية الموضوعية عن طريق تكوين أجهزة استشارية محدودة ونوع من التخصص في بعض الأعمال المرجعية.
وأما في المرحلة الثانية فيبدأ عملياً تطوير الشكل الذاتي إلى الشكل الموضوعي لكن لا عن طريق الإعلان عن أطروحة المرجعية الموضوعية بكاملها ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين، لان هذا وان كان يولد زخماً تأييدياً في صفوف بعض الراشدين في التفكير، لكنه من ناحية يفصل المرجعية الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدين للتجاوب في هذه المرحلة، ومن ناحية أخرى يضطرها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعية الموضوعية.وهذا الميسور لا يكفي كمّاً ولا كيفاً لملء حاجة المرجعية الموضوعية.
بل الطريق الطبيعي في البدء بتحقيق المرجعية الموضوعية ممارسة المرجعية الصالحة لأهدافها ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعددة بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعية وقدرات المرجعية البشرية والاجتماعية، ويربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات، ويوسع منها حتى تتمخض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعي.
ويتأثر سير العمل في تطوير أسلوب المرجعية وجعلها موضوعية بعدة عوامل في حياة الأمة فكرية وسياسية، وبنوعية القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعية الموضوعية ومدى وجودها في الأمة ومدى علاقتها طرداً أو عكساً مع أفكار المرجعية الصالحة.ولا بد من اخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار والتحفظ من خلال مواصلة عملية التطوير المرجعي عن تعريض المرجعية ذاتها لانتكاسة تقضي عليها، إلا إذا لوحظ وجود مكسب كبير في المحاولة ولو باعتبار تمهيداً لمحاولة أخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتب على تفتت المرجعية الصالحة التي تمارس تلك المحاولة.2
وقد قال السيد كاظم الحائري تعليقاً على نص(المرجعية الصالحة):انتهى ما جرى على قلم أستاذنا الشهيد لترسيم وضع المرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية. أما المقترحات التي كان قد أردف البحث بها ولم يكتبها فنحن هنا نتعرض إلى خلاصة من تلك المقترحات، وهي ما يلي:3
اقتراحات لمشروع المرجعية الصالحة:
1-اقتراح إنشاء حوزات علمية فرعية في المناطق التي تساعد على ذلك، ترفد بها الحوزة العلمية الأم.
2-اقتراح إيجاد علماء في الفقه والأصول والمفاهيم الإسلامية في سائر أصناف الناس، فليكن لنا من ضمن الأطباء علماء، ومن ضمن المهندسين علماء، وما إلى ذلك من الأصناف. ولا يشترط في هؤلاء العلماء التخصص والاجتهاد في الفقه والأصول، ويكون كل من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، يبث العلم والمعرفة وفهم الأحكام الشرعية والمفاهيم الإسلامية فيما بينهم.
3-ربط الجانب المالي للعلماء والوكلاء في الأطراف بالمرجعية الصالحة، فلا يعيش الوكيل على ما تدر عليه المنطقة من الحقوق الشرعية، بل يسلم الحقوق كاملة إلى المرجعية، وتموله المرجعية ليس بالشكل المتعارف في بعض الأوساط من إعطاء نسبة مئوية من تلك الأموال كالثلث أو الربع، مما يجعل علاقة الوكيل بالمرجعية سنخ علاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال، بل بشكل تغطية مصاريف الوكيل عن طريق عطائين من قبل المرجعية:
الأول: راتب شهري مقطوع يكفل له قدراً معقولاً من حاجاته الضرورية.
والثاني: عطاء مرن وغير محدود يختلف من شهر إلى شهر، وقد لا يُعطى في بعض الأشهر، وقد يُضاعف أضعافاً مضاعفة في بعض الأشهر، ويكون المؤثر في تقليل وتكثير هذا العطاء عدة أمور:
أحدهما: احتياجاته بما هو إنسان أو بما هو عالم في المنطقة، فإنها تختلف من شهر إلى شهر.
الثاني: مقدار ما يقدمه للمرجعية من أموال وحقوق شرعية.
الثالث: مقدار ما يقدمه للمنطقة من أتعاب وجهود.
الرابع: مقدار ما يُنتج في تلك المنطقة من نصر للإسلام.
كما إن هذه الأمور الأربعة قد تؤثر في تحديد مقدار العطاء المتمثل في الراتب المقطوع.
4-دعم المرجعية الصالحة لمكتب صالح ونظيف من بين المكاتب، وهي التي كانت تسمى في النجف (بالبرّانيات)، بحيث يصبح ما يصدر من ذاك المكتب ممثلاً في نظر الناس بدرجة خفيفة لرأي المرجعية. وفائدة ذلك: إن المرجعية الصالحة قد تريد أن تنشر فكرة سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك من دون أن تتبناها مباشرةً لمصلحة في عدم التبني المباشر، أو تريد أن تفاوض السلطة في أمر من الأمور بشكل غير مباشر، فذاك المكتب يتبنى أمثال هذه الأمور).
هذه هي أفكار الامام الشهيد وآراؤه بخصوص المرجعية الراشدة التي تستطيع ان تؤدي رسالتها الحقيقية في الواقع الاسلامي، لكن هذه الاطروحة الرائدة لم ترق لأصحاب الخط التقليدي في المرجعية، لأنها تنهي حالة الاسترخاء والامتيازات التي يتمتع بها ثلة من المنتفعين من المرجعيات التقليدية المعزولة عن المجتمع.
ومن هنا كان هؤلاء يحاربون السيد الصدر الذي وجدوا فيه تهديدا لمصالحهم ولخطهم التقليدي المتوارث ـ كما وجدت السلطة الحاكمة فيه تهديدا لمصالحها في الحكم.
لم ترق آراء الامام الصدر الاصلاحية لأولئك، فشنوا حربهم ضده.. لقد شككوا باجتهاده وشيعيته ووصفوه بأنه عميل أميركي وغير ذلك من الاساليب الضالة.
لقد إنعكس المنهج الاصلاحي في شخصية الشهيد الصدر على كل مجالات عمله، فكان بحق شخصية إصلاحية ذات أفق شمولي كبير، قلّ نظيرها في المرجعيات التي سبقته.
وهل توجد هناك عظمة أكثر من أن يطبق الإنسان بنفسه أطروحته؟! من غير أن يأخذ بعين الاعتبار الجانب الشخصي والذاتي له.
هذا هو الشهيد الصدر الذي هو مفخرة من مفاخرنا
فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا
أم حيدر – الجزائر