مع زوجة الشهيد مطهري
س: بعد تقديم الشكر على الوقت الذي خصصته لهذه المقابلة، نرجو التفضل بتوضيح قصة تعرفكم على الأستاذ المطهري؟
ج: قبل حدود الثلاثين عاماً كان زواجنا، ووالدي كان من علماء خراسان وكان مدرساً فيها متواضعاً مؤمناً تقياً.
كنت في الحادية عشرة من عمري، عندما رأيت –في عالم الرؤيا– أني ذهبت إلى غرفة أبي فوجدت فيها قصاصة ورق مكتوب فيها ” فلانة –إسمي– تعقد لمرتضى في التاسع والعشرين من الشهر”، وقد عجبت كثيراً لهذه الرؤيا لكني لم أطلع عليها أحداً، ومرّت الأيام وخطبني العديدون، ولكن والدتي كانت ترفض وتقول ما لم تحصل على شهادة الإعدادية فلن أزوّجها.
وعندما أصبحت في الثالثة عشرة، جاء الشيخ المطهري لخطبتي وكان يعرف والدي إلا أن والدتي عارضت بشدة، فهي من عائلة مرفّهة ثرية نسبياً ولم تكن ترتاح لفكرة زواجي من أحد الحوزويّين، وكانت تصرّح بذلك وعاود الشيخ المطهري المراجعة لخطبتي عدة مرات، فتذرّعت والدتي بشرط إكمالي للدراسة فوافق بيسر، وقال تستطيع إكمال الدراسة حتى تأخذ شهادة الإعدادية، ثم وبعد مدة وافقت والدتي وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من الشهر. فقال الشيخ المطهري لنجعل العقد إذاً يوم التاسع والعشرين فهو يوم جيّد لذلك، فتمّت الموافقة وتمّ عقد القران في ذلك اليوم وعندها اتضحت حقيقة الرؤيا التي ذكرتها.
ومضت الأيام، ثم انتقلنا إلى قم وبعدها إلى طهران واخترنا منزلاً صغيراً للسكنى في زقاق “دردار”، ورزقنا بسبعة أطفال أربع بنات وثلاثة أبناء، وقد حصلت جميع بناتنا على شهادة الإعدادية واثنتان منهن دخلن الجامعة، وتزوّجن جميعاً. أما ابني الأكبر فقد درس في كلية الإلهيات والثاني في كلية الهندسة والثالث في الإعدادية.
س: هل كان الأستاذ المطهري يشارك في أعمال المنزل وتربية الأطفال؟
ج: نعم كان مطلعا على جميع شؤون المنزل وكان يساعدني ويساعد الأطفال في معظم الأعمال: لقد كان أعظم حامٍ وهادٍ لنا. كان يتابع شؤون الأطفال ومسار دراستهم ويحلّ مشاكلهم، وكان كثيراً ما يكتب لهم الرسائل وما زال بعض نماذجها موجوداً، وكان يساعدني في أعمال المنزل كلما سنحت له فرصة لذلك. في معظم الأوقات كان يقوم بإعداد الشاي صباحاً ، ولا أتذكر أنه قال لي –ولا مرة واحدة– طوال حياتي “إجلبي لي ماء”. كان يتأثر كثيرا من إلحاق الظلم بالنساء، ويكرّر القول: “يجب عدم استغلال النساء”، وكان الاحترام والمودة هما ميزتا التعامل بيننا.
س: كيف كان ينظم الشهيد مطهري ساعات يومه؟
ج: في الصباح كان يذهب إلى كلية ” الإلهيات ” للتدريس إلى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم يعود إلى البيت ليتناول الشاي الذي أُعدّه قبل مجيئه ويتحدّث معي. كان رؤوفاً إلى درجة لا يعلمها إلا الله جعلت أجواء المنزل مفعمة بالعاطفة والمودة والرحمة، كان يتطرّق خلال حديثه إلى سير العرفاء بالله والمقرّبين إليه تعالى. فكان دون أن يخاطبني مباشرة يدعوني إلى التقوى والفضيلة من خلال عرض أمثلة بسيطة لكنها تتضمّن معاني عميقة….
إذا تحدّثت عن بعض القضايا المادية وشكوت منها أجابني بصوت هادئ مردّداً هذا البيت من الشعر وترجمته: لو عرفت لذة ترك اللذة لما اعتبرت لذة النفس لذة.
ثم يذهب إلى الدراسة والتدريس والتي تتراوح مدتها على الأغلب في حدود الساعتين. فتذهب طائفة من طلبته وتأتي بعدها طائفة أخرى. كانت له دروس وتذاكر علم مع مختلف الأعمار والمستويات ما بين طلبة المدارس الابتدائية إلى أساتذة الجامعات.
وبعد صلاة المغرب والعشاء كانت له إما لقاءات وإما يعود إلى المذاكرة والبحث. وفي حدود الساعة العاشرة يأتي للجلوس مع أفراد العائلة ثم يذهب بعدها للنوم ليستيقظ في حدود الثانية بعد منتصف الليل لأداء نافلة الليل ويبقى متهجّداً إلى الصباح.
س: هل يمكن أن تذكري بعض نماذج تعامل الشهيد المطهري معك؟
ج: مثلما قلت سابقاً ، فقد كنت صغيرة عندما جئت إلى منزله، ولكن رغم صغر سنّي لا أتذكر أني قد لقيت منه أذىً، كان في غاية الرأفة والتسامح ويولي أهمية لراحتي وراحة الأطفال، كان رؤوفاً بي إلى درجة لا يستطيع معها تحمل أن يشاهدني متأذية من شيء ما.
أتذكر أني سافرت مرة إلى أصفهان لزيارة ابنتي وبعد بضعة أيام، عدت إلى طهران بمعية إحدى صديقاتنا، كان الوقت قبيل السحر عندما وصلت إلى المنزل فوجدت الأطفال نائمين ولكن الشيخ كان مستيقظاً وقد أعدّ لنا شاياً وطعاماً مرتباً بطريقة جميلة للغاية… وبعد السلام والاستفسار عن الأحوال، قال الشيخ بلهجة فيها الكثير من التأثر: ” أخشى أن يأتي يوم لا أكون فيه هنا وتأتين أنت والأطفال نيام فلا يكون في استقبالك أحد” (السيدة مطهري تمتلكها هنا حالة شديدة من التأثر والحزن).
مرة ذهبنا إلى زيارة كربلاء والعتبات المقدسة فيها، وعندما عدنا ووصلنا إلى المنزل كان بعض الأولاد نائمين فعاتبهم الشيخ قائلاً: “لماذا لم تستعدّوا جميعاً لاستقبال والدتكم وهي عائدة من زيارة كربلاء؟”.
س: إلى أي مدى كان يطلعكم على القضايا السياسية في البلد؟
ج: إلى درجة متقدمة، ومنذ سنين وسنين كان يتحدث عن التخطيط والإعداد للثورة الإسلامية، وكان يطلعني على القضايا السياسية الراهنة، ويتحدث مع أولادنا عن التيارات الفاعلة والاتجاهات الفكرية الموجودة والتنافس بينها، ويبيًن لهم الحقائق والحق لكيلا ينحرفوا بسبب وجودهم إلى جانب المنحرفين في محيط واحد.
ومعلوم أنه كانت هناك بعض الأعمال ذات الطابع السري، ولذلك لم يكن يطلعنا عليها كتكليفه برئاسة مجلس الثورة الإسلامية.
س: هل كان يخصص لكم دروساً إسلامية (أنت والأولاد)؟
ج: نعم، لقد درست عنده علوم القرآن وعلوم العربية وكذلك الحال مع الأولاد، وفي أواخر حياته خصّص لنا في المنزل درساً في “جامع المقدمات” اشتركنا فيه أنا والبنات والأبناء وصهر لنا.
س: ماذا كانت نظرته للمرأة المسلمة؟
ج: كان يحترم النساء كثيراً، وكثيراً ما كان يقول إن المرأة في مجتمعنا تعرّضت للكثير من الاستغلال. وأتذكر أنه كان يتحدث معي حول بعض مواضيع كتابه “حقوق المرأة في الإسلام” عندما كان منشغلاً بتأليفه، كان يتأثر كثيراً من الظلم الذي يلحق بالمرأة ويعتبره عاراً على الرجال. أما بشأن سائر تفصيلات نظرته حول المرأة المسلمة فيمكن التعرف عليها من خلال مراجعة ما أورده بهذا الشأن في كتبه.
س: حدثينا عن الأيام الأخيرة من حياة المطهري ومتى عرفت باستشهاده؟
ج: كان الشيخ رؤوفاً رحيماً على الدوام، ولكنه كان في تلك الأيام كان أكثر رأفة ورحمة. كانت ليلة الأربعاء وقال لي بعد أن صلّى المغرب والعشاء أنه ذاهب إلى منزل الدكتور سحابي ليحضر اجتماعاً هناك ثم يعود إلى المنزل. فذهب وصادف أن جاء ابننا الأوسط من تبريز حيث كان يدرس في جامعتها آنذاك. كانت الساعة في حدود الحادية عشرة مساء عندما اتصل الدكتور سحابي بنا هاتفياً ليقول إن الشيخ لن يعود إلى المنزل هذه الليلة وسيبقى هناك. فاستغربت لذلك لأن الشيخ لم يكن يبيت خارج المنزل عند أحد… فقلت للدكتور سحابي “لماذا لا يعود الشيخ؟ وهو لا يبقى خارج منزله أبدا” فتلعثم الدكتور ثم قال: “لقد أصيب برصاصة وهو يرقد الآن في مستشفى (طرفة)، فتعالوا إلى هنا”.
ثم استدعيت ابني وقلت له “لنذهب إلى مستشفى(طرفة) فقد اغتيل والدكم”. ذهبنا بسرعة والألم يعتصرنا إلى المستشفى، وعند بابها سألت أحد حراس الثورة” ألم يجلبوا إلى هنا أحد العلماء أصيب برصاصة؟ فقال بحزن ولوعة: نعم… لقد صُرع رجل إلهي، لقد صُرع أحد العظماء……”، فقلقت للغاية، عندها انتبه إلى أننا من أرحام الشيخ، فسارع إلى القول باضطراب “لا تقلقوا…. فلم يحدث شيء مهم، لقد أصابت الرصاصة كتفه”، فصدقت قوله وطلبت أن يدلّني على غرفته لأراه. فدخلنا غرفة وجلسنا فيها ثم دخلت ثلاث نساء عرفت فيما بعد أنهن من أرحام الدكتور سحابي، وقلن لي: هل أنت زوجة الشهيد المطهري”، أجبت “نعم”، فقدّمن التعازي وأنا غير مصدّقة حتى قلن إن الشيخ قد استشهد، فانقلب حالي بالكامل…
وبعد فترة قلت لولدي لنعد إلى المنزل وكان مضطرباً يعصره الألم والذهول. ثم أوصلونا إلى المنزل في حدود الساعة الواحدة بعد انتصاف الليل فرأيت أن كافة الأزقة المحيطة بالمنزل قد احتشدت فيها الجموع الباكية.
س: ماذا كان شعورك عندما علمت باستشهاد الشيخ؟
ج: لقد سألوا العلامة الطباطبائي مرة هذا السؤال نفسه فأجاب: “اتركوا هذا لقلبي” وأنا أجيبكم بهذا الجواب نفسه.
س: لو كانت لديك كلمة للسيدات والعوائل فتفضلي..
ج: إني لا أرى نفسي مؤهلة لأقول شيئاً لهن، ولكني أخاطب ببضع كلمات عوائل الشهداء لا سيما عوائل الشهداء من العلماء الحوزويّين: إنّ على عاتق هذه العوائل بالخصوص مسؤولية كبرى، علينا أن نحفظ دماء الشهداء من جهة ومقام وكرامة العلماء الشهداء من جهة ثانية، فلا ينبغي لعائلة عالم شهيد أن تقوم بعمل من شأنه الإساءة لا سمح الله لمقام وكرامة العلماء، لقد عشنا مع هؤلاء العظام وتربينا على أيديهم، فلو صدر منا لا سمح الله عمل قبيح لساءت نظرة الناس إلى هؤلاء العظام المخلصين، نسأل الله التوفيق لأن نصبح من عباده الصالحين.
كتاب جولة في حياة الشهيد مطهري.